تحليل سياسي بالقبضات المرفوعة!
انتقل الاستقطاب الذي يشهده الشارع الإيراني إلى وسائل الإعلام التي تنشغل بالتطورات القائمة في إيران منذ انتخابات الرئاسة العاشرة وما تلاها من تظاهرات احتجاجاً على ما يسمونه «تجاوزات» و»تزوير» في عملية الانتخاب.بداية ليس جديداً أن تختلف الآراء بشأن ظاهرة سياسية ما، فالمنطق الطبيعي للأشياء أن تتعدد الرؤى والتصورات، وليس عارضاً أن يحاول كل فريق إثبات وجهة نظره. الجديد والمؤسف أن ينتقل الحوار والتحليل السياسي إلى مستوى «الحرب الكونية» التي يخوضها العالم ضد الرئيس الإيراني، وهكذا تتحول التظاهرات السلمية من المتظاهرين العزل إلى «حرب كونية» بقدرة الحناجر التي لا تميز بين الثناء والذم. حسب منطق «الحرب الكونية»- مع الاعتذار لاستعمال كلمة منطق لوصف تهويمات هؤلاء- يتحول أنصار المرشح مير حسين موسوي إلى «عملاء للخارج»، فينقلب- بقدرة الحناجر وعلو الأصوات الصادرة منها- أبطال إيران والدفاع عنها من رموز الإصلاحيين أمثال: محمد رضا خاتمي ومحسن ميردامادي ومحسن أرمين وعباس عبدي وسعيد حجاريان إلى «مخالب» للقوى الكبرى في هذه «الحرب الكونية» على الرئيس نجاد.يختصر فريق الحناجر والقبضات إيران وثقافتها الفريدة في شخص الرئيس نجاد- مع الاحترام الواجب لكل الأشخاص من كل التيارات- فيقتربون كثيراً من نماذج دكتاتوريات الشرق الأوسط الكلاسيكية وقيمها السياسية: الرأي الواحد والصوت الواحد والفريق الواحد. وإذ تميزت إيران بتعدد أجنحتها السياسية وهو ما أضفى حيوية نسبية على نظامها السياسي، يعود الزاعقون من الفريق المؤيد لنجاد إلى إدخال إيران بقبضاتهم وحناجرهم في زاوية أصغر كثيراً من حجمها التاريخي والثقافي لمجرد أن ذلك يناسب مصالحهم الشخصية وحساباتهم الذاتية.فإذا أخطأت ذات مرة بالموافقة على المشاركة في تحليل سياسي ونقاش هادئ حول ما يجري في إيران، كما قالوا لك، وبعد إلحاح شديد من «إعلام المقاومة اللبنانية»، إيماناً بشجاعة مَن يضحي ويستشهد من أجل ما يؤمن به في أي مكان بالعالم، تكون قد ارتكبت خطأ جسيماً. لا تملك- ولله الحمد- أي عداوة شخصية مع أي شخص أو تيار سياسي، تتمسك فقط باستقلالك ونزاهتك إيماناً منك بأنها تعصم غيرك من سوء الفهم. لكن بموافقتك حسنة النية والطوية تكون قد نزلت من حيث لا تدري إلى مستوى فكري هابط وضحل مع ضيوف القبضات المرفوعة، حيث لا منطق هنا سوى الهتاف واحتكار الوطنية وإطلاق النعوت وأحكام القيمة. هنا ليس مطلوباً أن تكون شخصاً متزناً ولا محللاً موضوعياً، بل المطلوب أن تكون رافعاً قبضتك وملوحاً بها ومنافحاً عن الرئيس الإيراني- وليس إيران حتى- أخطأ أم أصاب، وإلا كنت في عداد المنضوين في «الحرب الكونية» على إيران. عبثاً تحاول المحاججة بأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية وأن الحقيقة تقع غالباً بين تطرفين، ولكن جلسة الحوار تبدو معدة سلفاً: هجوم وتجريح شخصي فقط من أحد المشاركين لكونك تعرض وجهتي النظر لما جرى في انتخابات الرئاسة الإيرانية الأخيرة وليس وجهة نظر واحدة يريدها هو و»إعلام المقاومة اللبنانية». لا يكفيك هنا أن تنظر إلى الأمور بنظرة أقرب إلى الموضوعية محاولاً إعطاء كل ذي حق حقه، ولا تحليل الأمور بمنطق محايد، ولا يكفيك أن تكون منصفاً لإيران وثقافتها الفريدة وحضارتها العظيمة واستقلالها غير المنكر عن القوى الكبرى. المطلوب أن تنخرط في حفلة الصخب، فيصبح رجلاً عاقلاً ومحترماً ومتزناً مثل المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي، تتفق معه وتختلف، «عميلاً للغرب» في «حربه الكونية» على إيران. عندما لا يستطيع الآخر الرد على حججك في النهاية يصبح محل سكنك مبرراً للاتهام، فبما أنك تتحدث من القاهرة فأنت بالضرورة إذن مع النظام المصري، فيتم فوراً التعريض بك على هذا الأساس حتى لو كنت مستقلاً عن ذلك النظام محتفظاً لنفسك بمسافة واضحة عنه دافعاً ثمناً كبيراً لقاء ذلك!لا يكفي أن تعلن أنك لست طرفاً في المعادلة السياسية الإيرانية، بل متابعاً لما يجري ويحدث، عارفاً قدر وقيمة إيران تاريخياً وثقافياً وما تمثله من ثقل وقوة ناعمة في المنطقة. المطلوب منك معادلة بسيطة: إما أن تنضوي في فريق التلويح بالقبضات المؤيد للرئيس نجاد فتتهم الآخرين، كل الآخرين، بالانضواء في «الحرب الكونية»، وإما أن تنحشر في زمرة أعداء إيران التي يرونها عدواً وشراً مستطيراً! والفريق الأخير حاضر أيضاً في الإعلام العربي، فهو لا يرى في إيران ونظامها السياسي أي جوانب إيجابية، بل فقط «مؤامرات فارسية». يلتقي الفريقان من حيث لا يحتسبان: فريق القبضات وفريق المؤامرات، المطلوب منك أن تنزع أي أفكار مستقلة من رأسك وتتخلى عن أي موقف نقدي وتسير في طريق إجباري باتجاه واحد. يعصمنا العقل والمنطق النقدي والمنهج التحليلي من أن ننضوي في فريق القبضات، وفي الوقت نفسه لا نرضى لأنفسنا أن ننخرط في فريق المنادين بالمؤامرات، حتى لو سهل ذلك من مأمورية الطرفين. مازلت أعتقد أن إيران وحضارتها الكبيرة أكبر من الأشخاص، وأن اختزال إيران وحضارتها العظيمة في تيار واحد يسيء إلى نظامها السياسي الذي يعرف تعددية وتنوعاً أكثر بكثير من أصحاب الحناجر العالية والقبضات المرفوعة!*خبير الشؤون الإيرانية والتركية-القاهرة