افتتاحية من عظم الرقبة

نشر في 19-11-2009 | 00:00
آخر تحديث 19-11-2009 | 00:00
الديمقراطية ليست منظومة مؤسسات وتشريعات فحسب، بل هي -في ذات الوقت- ثقافة وتقاليد وممارسة أيضاً. فالدستور يعطي المواطن حق الانتخاب، ولكن ما يحدد جوهر هذا الحق وجدواه هو آليات ممارسته وكفاءتها وأجواؤها. واللائحة الداخلية لمجلس الأمة تفصل في تبيان الأغلبية اللازمة لكل قرار، ولكن مصداقية القرار وحكمته وعدالته تعتمد على أخلاقية الممارسات وموضوعية المعلومات التي توافرت للنواب وساعدت في الحصول على تأييد أغلبيتهم.

ولجان التحقيق البرلمانية إحدى أدوات السلطة التشريعية لممارسة دورها الرقابي، غير أن الرقابة البرلمانية تبقى سيفاً بلا نصل في المعركة ضد الفساد، أو تصبح بحد ذاتها أداة إفساد ما لم تُمارَس بقدر كبير من الشفافية، وما لم تعتمد على المعلومة الصحيحة، وما لم تتعامل مع جميع الأطراف بعدل ومساواة، وتلتزم حياد القضاء وهيبته، فلا تُجامل صاحب منصب أو نفوذ، ولا تَجْرح أو تُجَرِّح غيره مستقوية بالحصانة، فالديمقراطية، إذن، آلية حكم لا تعتمد مخرجاتها ونتائجها على نوعية المدخلات من تشريعات وبرامج ولوائح فقط، بل تعتمد أيضاً -وبالدرجة الأولى والأهم- على كفاءة الاستخدام وأخلاقية المستخدمين وثقافتهم.

نقول هذا تعليقاً على ما شهده مجلس الأمة في جلسته أمس الأول (الثلاثاء)، حين أساء أحد النواب إلى مفهوم الدور الرقابي للمجلس، وإلى أصول وأخلاقيات عمل لجان التحقيق البرلمانية، فحاول اختطاف لجنة التحقيق في مشروع الفحم المكلسن، وانفرد بكتابة تقريرها، وسرَّبه إلى الصحافة قبل أن تَطَّلع عليه اللجنة فضلاً عن إقراره. ولن نتطرق هنا إلى الأسباب الخاصة التي دعته إلى ذلك، ولن نتطرق أيضاً إلى مَن دفعه ليفعل ذلك، ولكننا نريد أن نسجل أن جلسة الثلاثاء، رغم كل الانفعالات الضارة أو المنذرة التي أفرزها احتقان سياسي خطير، لم تخلُ من وميض مُبشر، تجلَّى في تصدي عدد من السادة الأعضاء المحترمين لمحاولة الاختطاف هذه، وللتعسف في استعمال السلطة الرقابية. لم تَخْلُ الجلسة من وميض مبشر تجلَّى في وقوف الأغلبية البرلمانية مع اقتراح سحب الملف كله من لجنة التحقيق التي يرأسها «النائب مختطف التقرير» وتحويله إلى ديوان المحاسبة، وذلك انتصاراً لكرامة المواطنين، واحتراماً لأصول العمل النيابي الرقابي ولوائحه، ودفاعاً عن أخلاقيات الممارسة النيابية.

وإذا كنا نحَيِّي مجلس الأمة ورئيسه على وقفة العز هذه دفاعاً عن مجلس الأمة وما يمثله المجلس في ضمير الشعب الكويتي، فإننا -في الوقت ذاته- نسجل مشهداً جديداً وغريباً من مشاهد ضعف الحكومة وغياب رؤيتها، حين امتنعت عن التصويت تأييداً لاقتراح رئيس مجلس الأمة بتوجيه لوم إلى النائب مختطف التقرير. وهذا الامتناع موقف لم نفهمه، ولم نجد له تفسيراً، اللهم إلا إذا ذهبنا بعيداً مع أصحاب نظرية المؤامرة الذين يوحون بدهاءٍ أن الدفاع عن سمعة مجلس الأمة وصورته هو آخر هموم الحكومة واهتماماتها، وأن «النائب مختطف التقرير» هو -في الحسابات السياسية المبدئية- ولدنا ومن «عظم الرقبة».

الجريدة

back to top