في ذكرى غيابه الأولى محمود درويش... ماذا بقي منه؟

نشر في 09-08-2009 | 00:00
آخر تحديث 09-08-2009 | 00:00
جملة نقاط يمكن الحديث عنها في ذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش الأولى، نقاط تتعلق بالذكرى نفسها والشعر وقصيدة النثر والموت وحضور درويش في العالم العربي.

كثر قالوا إن العالم العربي لم يعد يملك شاعراً جماهيرياً بعد رحيل درويش ومن قبله الشاعر السوري نزار قباني، وفي هذا الأمر إيجابية كبيرة، فليس على الشاعر أن يكون جماهيرياً يحشد الناس في الزوايا والصالات ويطلق فيهم أسمى عبارات الشعر والغزل أو «التحريض الثوري» أو الزجل المنبري. في المقابل كثر ممن يعلنون وداع الشاعر الجماهيري، حلمهم أن يكونوا في هذا المنحى أو الاتجاه، إنهم من «السلالة الطاووسية» التي لا ترى نفسها إلا في المرآة أو كنرسيس الذي يشاهد صورته في الماء.

من يتابع ظهور بعض الشعراء على شاشات التلفزة أو جلوسه في المقاهي، ومن يقرأ تصريحاته، وبعض الكتابات عنه يعرف أن نجومية درويش حلم كل واحد منهم. لكن المشكلة في أن معظم الشعراء العرب الآن لا يملك الشاعرية التي كان يتمتع درويش بها. إنهم رواد قصيدة البياض «الساذجة» وقصيدة السواد القائمة على الطلاسم أو القصيدة اليومية الهشة، أو هم أولياء «الموسيقى الداخلية» كما يتجرأون على تسميتها.

لنتخيل أحدهم يكتب عن نفسه في الصفحة التي يديرها بأنه قدّم أمسية شعرية وحبس الجمهور الأنفاس في الصالة، ولنتخيل أيضاً أن شاعراً يكتب عن ذاته بأنه حظي بتكريم ملكي في المغرب وآخر يضع خبر ترجمة ديوانه على الصفحة الأولى من الجريدة التي يعمل فيها، وشاعراً آخر يدخل المستشفى حين يعلم أن أدونيس مرشح لجائزة «نوبل».

النقطة الثانية في ذكرى رحيل درويش استعمالاته في الحفلات والكتب والمجلات والمقدمات والمهرجانات، فلا يتردد المغني اللبناني مارسيل خليفة في أن يسافر حول العالم ويهدي حفلاته إلى «روح محمود درويش». لا بأس في أن يكرم المغني صديقه وكاتب الكثير من أغنياته، لكن التكريم عند المغني أصبح أحد ديكورات حفلاته، أو «بسملة» لفظية يستعملها خليفة في السراء والضراء، في لزوم ما لا يلزم. الإهداء مثل «الجدل البيزنطي» حول كتاب درويش الأخير الذي وضعه الأصدقاء في المحرقة كما التجار الذي يطبعون كتب الشاعر. بدا كأننا نعيش بعد ديوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي؟ لحظة «الصراع على محمود درويش»، أو لحظة «تناتش» النجم بين الولاء والانتماء بين السياسية والأدب، بين الصداقة والتجارة، بين البحث في جرار مكتبه أو البث التلفزيوني من بيته، بين إيقاع قصائده أو الكتابة عنه.

النقطة الثالثة التي ربما تُطرح قريباً، هي السؤال ماذا بقي من محمود درويش؟ يعلم الجميع أن كتب نزار قباني كانت حاضرة بقوة لدى المراهقين والمراهقات على مر عقود، لكن بعد سنوات قليلة على غيابه بدا كأنه موضة انتهت إلى غير رجعة، وإن كان بعض المغنين يختار قصائد له، فحضوره لا يبدو على تلك الشاكلة اليوم، ولم نعد نرى كتبه في الواجهات. هل يصبح حضور درويش على هذه الشاكلة بعد سنوات، خصوصاً أن بعض الباعة في المكتبات أوضح أن كتاب الشاعر الراحل الأخير لم يحظ باهتمام القراء كما كتبه السابقة؟! طبعاً، لا أحد يعرف كيف تكون الصورة مستقبلاً، وكيف تكون علاقة القارئ بالشاعر ونصه، لكن الأكيد أن غياب درويش ترك فراغاً في الوسط الشعري.

لا نستطيع تأويل حضور درويش الآن، لكن بالتأكيد الجمهور يميل إلى النسيان، وحضور الشيء يلزمه الحضور الدائم في علم الوسائط والميديا.

قصيدة النثر

النقطة الرابعة التي حظيت باهتمام النقاد أخيراً علاقة درويش، شاعر الإيقاع والتفعلية، بالنثر عموماً وبقصيدة النثر تحديداً. إنه موضوع شائك وغني، حظي بنقاشات وكتابات كثيرة، بعضها جدي ورصين وبعضها الآخر اعتباطي على نحو ما هي المواقف العدائية ضد قصائد درويش التي تخص القضية الفلسطينية.

يرى البعض في آراء درويش عداءً واضحاً «لقصيدة النثر»، وهو استخلاص خاطئ، يستند إلى انحيازه هو إلى خياره الشعري «قصيدة التفعيلة»، فمن يقرأ تجربته الشعرية يلحظ أن عالمه الفني يقوم في ركن أساس منه على الاستفادة القصوى من إيقاعات الشعر العربي ومن الرواية ومن كتب اللغة، وهي استفادة زاوجت في صورة خلاقة بين المعنى والصورة الشعرية، وحتى مناخ القصيدة النفسي، وحواملها الشكلية في القلب. آراء درويش في قصيدة النثر فيها الكثير من رفض ما هو مطروح من نماذج تعتدي على الشعر، وتساهم في وجودها بكثرة، الصفحات الثقافية التي يشكو الشاعر من ركاكة بعض القيمين عليها، وهي شكوى محقة، على رغم أن درويش يؤكد في مساحة أخرى من الحوار أن «قصيدة النثر»، حققت مشروعيتها.

يرفض درويش المفاضلة بين النثر والشعر لأن لكل منهما جماليته. قال: «أليس النثر هو حقل الشعر المفتوح. أليس الشعر هو نثر الورد على الليل ليضيء الليل». وسبق أن كتبنا أن درويش منذ بواكيره الأولى، نافس فيه الناثر الشاعر، وكان توأمه، انبثق الشعر من فائض النثر، وانبثقت القصيدة من فائض الرواية، يكتب قصيدة كمن يروي حكاية رمزية، أو يقرأ مشاهدات وذكرياته أو ذاكرة عاشها أو يعيشها أو يتعايش معها. لا تبعد قصيدة درويش عن الواقع اليومي والحدثي، ولا تفصل اللحظة الوجدانية والذهنية من خلال الاستعارة. كتب: «في ظنّك أنك تخطّيت العتبة الفاصلة بين الأفق والهاوية، وتدرّبت على فتح الاستعارة لغياب يحضر وحضور يغيب بتلقائية تبدو مطيعة وتعرف أن المعنى في الشعر يتكون من حركة المعني، في إيقاع يتطلع فيه النثر إلى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر إلى أرستقراطية النثر».

محمود درويش الشاعر يحب كتب اللغة، تحديداً «لسان العرب»، والنثر عموماً والرواية خصوصاً التي كان يلتهمها أكثر مما يقرأ الشعر، ربما لأنها حقل أفكار الشعر ومصدر عباراته. ذكر درويش في حوار صحافي: «لدي حنين نحو النثر، وأتمنى أن أفشل شعرياً لأتجه الى النثر، لأنني أحبه وأنحاز إليه، وأعتبر أن فيه أحياناً شعرية متحققة أكثر من الشعر نفسه». ولإبراز التواشج الحار الذي يربط الشعر في النثر في إطار المشروع الإبداعي الدرويشي تستشهد الباحثة الأردنية تهاني شاكر في كتابها «محمود درويش ناثراً» بمقطع شعري من ديوان «حالة حصار» قال فيه درويش:

إلى الشعر: حاصر حصارك

إلى النثر: جرّ البراهين من

معجم الفقهاء إلى واقع دمرته

البراهين. واشرح غبارك

إلى الشعر والنثر: طيرا معاً

كجناحيْ سنونوة تحملان الربيع المبارك.

ثمة من يقول إن أبرز المشاكل التي تواجه الدارس في بعض كتبه النثرية اختلاط الفنون فيها، أو عدم تحديد الفن النثري الذي ينتمي إليه الكتاب.

يصعب تعريف الشعر بالنسبة إلى درويش، لكن ثمة ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية، وليس حكراً على الوزن، وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلاف درويش لم يكن مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافه كان مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر.

يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريفها، لأن هذه الأمور قد تُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصده درويش حين قال: «إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة». أفاد الشاعر كثيراً من قصيدة النثر، علاوة على انفتاحه على ما يُسمى «نثر الحياة»، وهو أكد مراراً أنه ليست لديه مشكلة مع قصيدة النثر، ولا مع النثر - يكتب النثر.

يبدو درويش عندما تقرأ أعماله النثرية ناثراً أكثر منه شاعراً، وعندما تقرأه كشاعر يبدو أكثر من ناثر، وقد اعترف أن قصيدة النثر كسبت معركتها لأجل الشرعية، لكنه أثار الانتباه إلى أن تيار القصيدة أو بعض ممثليه يريد جعل القصيدة الشكل السائد.

دعا درويش إلى الديمقراطية في الشعر، شعر تختفي فيه التصنيفات ويدمج الأجناس الأدبية في ما بينها، وهو في هذا السياق قال إنه يكتب نثراً، لكنه رفض أن يسميه قصيدة نثر لأنه ضد التصنيفات التي تقيد الشاعر في أحد الأشكال، وقد دعا إلى الانفتاح في الحكم على أعمال الآخرين، واعتقد أن أي قائمة لأهم ما كتب في العقود الأخيرة من شعر عربي ربما تكون من نصيب قصيدة النثر، لكن هذا لا يعطيها أو يعطي ممثليها إلغاء الأشكال الأخرى، فكما كانت مجلة «شعر» رائدة في دفع قصيدة النثر كانت «الآداب» رائدة في دعم الشعر الجديد أو قصيدة التفعيلة. ولم ينكر الشاعر هنا أن قصيدة النثر تتوافر على الإيقاع مثل قصيدة التفعيلة، أياً كان الإيقاع بقول داخلي أو عالي النبرة، فالمشكلة في كيفية ضبطه أو دوزنته كما يُضبط العود أو الوتر الموسيقي لإنتاج أجمل الألحان، وهل ثمة أجمل من هذه الشذارات:

- التفاحة عض الشكل بلا عقوبة المعرفة.

- الأجاصة نهد مثالي التكوين لا يزيد عن راحة اليد ولا ينقص.

- العنب نداء الشكر أن اعتصرني في فمك أو في الجرار.

- التين انفراج الشفتين بإصبعين لتلقي المعني الآيروسي دفعة واحدة.

- التين الشوكي. دفاع العذراء عن كنزها.

-الكرز اختصار المسافة بين شهوة العينين وصورة الشفتين.

- السفرجل مشاكسة الأنثى للذكر تترك غصّة في حلق الخائب.

- الرمان اختباء الياقوت في التورية.

لا ينتهي الكلام عن محمود درويش، هو الذي خرج في مقتبل عمره من فلسطين إلى المنفى الكبير، وعاد بعد 30 عاماً من المنفى الكبير إلى فلسطين التي لم يجدها، بل وجد جزءاً منها ما برح محاصراً بالخوف والقلق: «الطريق إلى البيت بات أجمل من البيت الذي لم أجده بعد عودتي». كانت هذه العبارة صاعقة بالنسبة الى كثيرين، صورة يمكن تفسير وجه فلسطين من خلالها، بل قد نعرف وجه المنفى من خلالها. عاد درويش إلى فلسطين، لكنه لم يجدها، كما عاد إدوارد سعيد الى بيته فوجد المحتلين فيه...

الزعيم

كان درويش يعبر من خلال قصائده عن واقع اليومي العام من فلسطين إلى العالم، من غزة إلى أميركا، من أبيه إلى إدوارد سعيد، ومن المرأة التي هي أمه إلى المرأة حبيبته. وهو في وقت نفسه، وإن كان في جانب من حياته «زعيماً» شعرياً، يأخذ أوسمة من الرئيس زين العابدين بن علي، أو مقرّباً بقوة من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لم ينج من التكفير بعد موته. فيما كان العالم يودعه، كان لحركة «حماس» الإسلامية موقف آخر من الرجل، واحتفلت برحيله على طريقتها الخاصة، اذ اعتبرت موته نفوقاً. ربما لهذه الأسباب كتب العلامة محمد حسن فضل الله عن درويش: «عندما ندرس الشاعر الفلسطيني العربي المجدِّد الكبير، محمود درويش، فإننا ندرس الشاعر الذي عاش فلسطين في عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه وقلمه وقصائده، حتى تحوّل إلى فلسطين بعدما تجسّدت فلسطين فيه، فكان محمود درويش فلسطين التي عاش فيها مأساة قريته التي طُرِد منها مع أهله وأبناء مجتمعه، ثم اجتاحها اليهود فدمّروا بيوتها، واجتاحوا وجودها وكيانها... فإذا بهذه المعاناة تتعمّق في ذات الشاعر وكيانه، متّصلةً بإحساس الطفولة عنده، وهو الإحساس البريء الكامن في عمق أعماقه الذاتية الإنسانية، حتى بدأت تخترقه في حركة اللاشعور وانفتح على الآفاق الكونية الواسعة، فتماهت مع الكثير من القضايا والمشكلات والالتزامات التي يعالجها ويشعر بالمسؤولية نحوها. لقد عاش محمود درويش شاعراً إنسانياً، وحالة طوارئ إنسانية تحمل كلّ المعنى الإنساني، لأنه لم يعتبر أو يعتقد أن فلسطين هي مجرّد أرض، وإن كان الشاعر الشاعر يتجذّر من الأرض، ليعيش أنسنة الأرض، فالأرض ليست حجارةً، بل هي عمق الإنسان الذي وُلِد من ترابها، وتفيّأ ظلالها، وتنفّس هواءها، وعاش على ظهرها، ودُفنت عظامه فيها...

تابع: «إنني، وكشاعر إنسان، كنت أتابع محمود درويش في كل شعره، فأجد فيه انفتاح الشاعر على الحداثة المميّزة. فحداثة محمود درويش ليست حداثة الغموض، لكنها حداثة الوضوح الذي يتحرّك في عمق الفنّ، لأن هناك وضوحاً لا فنيّة أو فنّ فيه، وفناً لا وضوح فيه، بينما جمع الشاعر محمود درويش الاثنين معاً. إنني، ختاماً، حين أقرأ نقداً لمحمود درويش في التجربة الإسلامية المعاصرة، أرى أن ذلك لا يمكن أن يشكّل دافعاً أو مبرّراً للتكفير أو التضليل، لأن التجربة الإسلامية الإنسانية هي تجربة بشرية، تخطئ وتصيب، وليس في ذلك نقداً للإسلام، لأن البشر لا يمثّلون الإسلام بل يمارسونه... ولهذا فلا أتصوّر إنساناً يذوب في معنى شعبه وإنسانيته وقضيته مدافعاً ومنافحاً إلى حدّ الشهادة، وإن بغير مصطلحها، قد يكون ملحداً... وأما القضية الفلسطينية بعد رحيل الشاعر الكبير، فهي نتاج الإنسان المبدع، والفنّ الهادف، وكما تنتج فلسطين المجاهدين، فمن المؤكّد أنها ستنتج الفنّ الموحي بالإنسان السائر قدماً في خطّ التقدّم لا يقف ولا يتراجع».

احتفالية بذكرى رحيله

تقيم مكتبة الإسكندرية احتفالية اليوم لإحياء الذكرى الأولى لرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش أحد رموز الشعر العربي الحديث، بحضور نخبة من الشعراء والنقاد المصريين.

يلقي مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين كلمة الافتتاح، وتعقبها كلمة الشعراء المصريين التي يلقيها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، فيما يقرأ الشاعر مريد البرغوثي قصيدة في رثاء درويش باعتبارها كلمة شعراء فلسطين، خلال الجلسة الافتتاحية التي يديرها الشاعر فؤاد طمان.

وتأتي الجلسة النقدية الأولى بعنوان «التجربة الشعرية لمحمود درويش بين المحلية والعالمية»، أما الجلسة النقدية الثانية فبعنوان «العوامل المؤثرة في تجربة محمود درويش». وتختتم الاحتفالية في التاسعة مساءً بحفلة غنائية لأشهر القصائد المغناة لدرويش، مع قراءات من شعره على خشبة المسرح الصغير في المكتبة.

back to top