عن مصر وقوتها الناعمة


نشر في 31-07-2009
آخر تحديث 31-07-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد حتى لو امتلكت «إسرائيل» آلاف الرؤوس النووية، واستمرت ترسخ في تحالفاتها الدولية وقدراتها العسكرية والتكنولوجية فلا يمكن قبولها في الإقليم بمعطيات العلوم السياسية ولا بمعطيات المواقف الفكرية أو حتى الإيديولوجية منها، كما لا يمكن لدولة الاحتلال الصهيوني أن تنافس مصر بقوتها الناعمة ذات الأبعاد الثلاثية المتمثلة في التاريخ واللغة والثقافة.

يطول الحديث دائماً عن مصر وقوتها الناعمة، ويندر أن تجد اثنين من المثقفين المصريين في قاعة انتظار إلا ويكون موضوع الدور الإقليمي حاضراً في نقاش معمق أو حتى سريع، وإذ تختلف النظرة إلى ذلك الدور وضرورته وحدوده من شخص إلى آخر، ويبدو أن هناك اتفاقاً عاماً بين المثقفين المصريين على أفضلية القوة الناعمة لرفد الدور المصري في المنطقة، وبشكل يعيد النقاش في أغلب الحالات إلى المرتكزات الأساسية لنظرية «القوة الناعمة» التي صاغها عالم العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي. تتحدد مراكز الدول في النظام الدولي والإقليمي طبقاً لنظرية «القوة الناعمة»، عبر قياس مجموعة من العوامل من أهمها: الدفاع، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والتعاون الدولي، والمساحة الجغرافية، وعدد السكان، والديمقراطية، واللغة، والثقافة، والتاريخ المشترك، وكما يتضح فإن عناصر القوة الصلبة مثل القدرات الدفاعية والاقتصادية والتكنولوجيا والتعاون الدولي يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية متوافرة يتم جمعها على أسس معلومة، مثلما يمكن معرفة المساحة الجغرافية للدول المختلفة وعدد السكان فيها بعملية بحث بسيطة للغاية على شبكة الإنترنت، ولكن عنصر الديمقراطية وجاذبيتها لا يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية، كما أن عامل اللغة وتأثيرها على الرأي العام الإقليمي هو عامل حاسم في توجيه الرسائل السياسية والثقافية، والمثال الساطع هنا هو قدرة مصر على مخاطبة أوسع الشرائح السكانية باللغة العربية التي تعد أوسع اللهجات انتشاراً في المنطقة، مثلما تملك مصر تاريخاً مشتركاً مع المنطقة منذ عصور سحيقة، واستمر الدور المصري قائماً طوال التاريخ وتتوج دوماً بالأبعاد الثقافية قبل العناصر العسكرية والاقتصادية.

صاغت الثقافة المصرية في العصر الحديث جانباً كبيراً من وعي ووجدان الشعوب العربية عبر أعلامها في الأدب والفنون والثقافة، ورموزها الفكرية ونوابغها في العلوم الطبيعية والإنسانية، وعندما نقارن إمكانات مصر- رغم تراجع مكانتها الإقليمية وغياب عناصر قوتها الصلبة- مع إمكانات «إسرائيل» مثلاً وبالتحديد في عوامل اللغة وتأثيرها على الإقليم، والعوامل الثقافية والتاريخ المشترك، نجد أن «إسرائيل» لا تملك تاريخاً مشتركاً مع شعوب المنطقة، ولا حتى لغة مشتركة مع غيرها، ناهيك عن عدم وجود عوامل ثقافية غالبة لديها. وبالتالي فحتى لو امتلكت «إسرائيل» آلاف الرؤوس النووية، واستمرت ترسخ في تحالفاتها الدولية وقدراتها العسكرية والتكنولوجية فلا يمكن قبولها في الإقليم بمعطيات العلوم السياسية ولا بمعطيات المواقف الفكرية أو حتى الايديولوجية منها، كما لا يمكن لدولة الاحتلال الصهيوني أن تنافس مصر في الأبعاد الثلاثة المذكورة.

تملك مصر بفضل حيوية سكانها ومثقفيها أكثرية عناصر القوة الناعمة في الإقليم حتى الآن، ففيها يتم إنتاج أكبر عدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية- مع الاعتراف بتراجع مستواها، مثلما تملك مصر أكبر عدد من الكتب والمقالات العلمية المنشورة، مع التنويه بأن الكثير منها لم يعد في مستوى الإنتاج الفكري في السابق، وأن كتب الدجل والشعوذة التي تتناول «الثعبان الأقرع» و»عذاب القبر» تنتشر انتشاراً غير مسبوق على الأرصفة، وبالرغم من عوامل التراجع الكثيرة فمازالت اللهجة المصرية هي أوسع اللهجات العربية انتشاراً، وينتمي أغلب الحائزين على الجوائز الأدبية والفنية في المنطقة إلى مصر، وفي أرض الكنانة يعقد عدد كبير من الأنشطة الثقافية في الوطن العربي- حتى مع عشوائية الكثير منها و»الشللية» المهيمنة عليها، وأخيراً فإن مصر تجتذب سنوياً أكبر عدد من السياح العرب مقارنة بغيرها من الدول العربية، وفي هذا السياق لابد من ملاحظة أن مصر خسرت أيضاً عاملاً أساسياً من عوامل جاذبيتها التاريخية وقوتها الناعمة، لأنها لم تعد تقدم شعاراً يتحلق حوله المصريون ناهيك عن العرب. لم تعد مصر تملك شعاراً يضاهي شعار «النهوض القومي» الذي رفعته في عصر الزعيم جمال عبدالناصر، أو حتى شعاراً فضفاضاً في مستوى «السلام والانفتاح» الذي رفعته في عصر الرئيس السادات.

وبالتوازي مع إخفاقات النظام السياسي المصري اقتصادياً وتكنولوجياً، بحيث يتردى الوضع سنة بعد أخرى بشكل ملحوظ، لا يتبق من مكانة مصر الإقليمية إلا عناصر «القوة الناعمة»، وأساسها هو القبول المتبقي للثقافة المصرية لدى شعوب المنطقة، ومع صعود أدوار إقليمية وهبوط أخرى، وهو جدل تاريخي يظل محتدماًً طالما بقي التاريخ وبقيت الدول، لا يصح ولا يستقيم الانحدار بالدبلوماسية العامة المصرية إلى مستوى الحملات الإعلامية الركيكة، قصيرة النفس والنظر، وثقيلة الظل.

يقول منطق التنافس الإقليمي إن البقاء في حلبة التنافس يتطلب توافر ثلاثة شروط أساسية هي: أولاً، توافر حد أدنى من الصمود في وجه الضغوط الدولية، وثانياً، تبني الأجندة الوطنية قبل أجندات القوى الأخرى، وثالثاً، تغليب اعتبارات المصلحة الوطنية المصرية على ما سواها من اعتبارات، ولذلك لن تتمكن الحملات الإعلامية ضد المنافسين الإقليميين، مع عدم توافر الشروط الثلاثة، من إعادة الدور المصري إلى سابق عهده، لكنها ستبدد البقية الباقية من عناصر «القوة الناعمة» المصرية في الإقليم، لأنها تفتقر إلى المكون الأساسي للقوة المصرية الناعمة: خفة الظل!

* مدير مركز الشرق للدراسات

الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة 

back to top