ليسوا ملائكة

نشر في 14-06-2009
آخر تحديث 14-06-2009 | 00:00
 محمد سليمان «تحرير الإنسان والارتقاء به» راية حملها المثقفون في كل العصور معلنين أن حب البشرية هو محور حياتهم، وأنهم سيسخرون إبداعهم ووجودهم من أجل النهوض بالإنسان والدفاع عن حقوقه، وقد كان جان جاك روسو يصف نفسه دائماً «بمحب البشرية» وبرتراند راسل ظل على مدى عقود حتى وفاته عام 1972 مشغولاً بتقديم النصح لمعاصريه، كاتباً عن كل شيء من الهندسة والبطالة والعدالة والفلسفة واختيار السيجار المناسب واستخدام أحمر الشفاه.

وقد كان الشاعر الإنكليزي شيلي يعتقد أن الوظيفة الأساسية للشعر هي النهوض بالبشرية، ويعلن أن المثقفين والشعراء خاصة هم قادة المجتمع ومشرعو العالم، وأن الشعر وحده قادر على ملء الفراغ الأخلاقي وإعطاء دفعة للتقدم، لكن المثقف قبل كل شيء وبعده إنسان متعدد الوجوه ومسكون بالغرور والنرجسية، وله أيضاً مصالحه الشخصية الصغيرة والطريفة التي تلون سلوكه وتوجهه.

والكاتب الإنكليزي بول جونسون يحدثنا في كتابه «المثقفون» الذي ترجمه طلعت الشايب وأصدرته دار شوقيات عام 1998 عن بعض أهم كتاب الغرب وصانعي حضارته، كاشفاً عن وجوههم الأخرى المتوارية، وعن غرورهم وغرابة أطوارهم واضطراباتهم النفسية والأخلاقية، ليؤكد للقارئ أن المثقفين ليسوا ملائكة، وأنهم رغم نبوغهم وتفوقهم بشر يرتكبون كغيرهم الكثير من الأخطاء والخطايا.

فمحب البشرية جان جاك روسو الذي كان أول المثقفين المنحازين للتحديث والحداثة وأشهرهم وأكثرهم تأثيراً يتحدث عن تناقضاته في كتابه «الاعترافات» قائلاً: «يتمثل أحد تناقضاتي الواضحة في الجمع بين الجشع الشديد والاحتقار الشديد للثروة»، وبسبب هذا الجشع عاش روسو على المنح والهبات التي كان يلح في طلبها بحجة أن ذلك يُسعد المانحين ويدعم هذه الحجة العجيبة بقوله «إن كل شخص يساعدني يجامل نفسه في حقيقة الأمر»، وقد أرسى بغروره هذه الحجة في رده على إحدى الأكاديميات التي منحته جائزتها عندما كتب قائلاً: «أنتم تكرمون أنفسكم أيها السادة وما فعلتموه من أجل تشريفي هو تاج من الغار يضاف إلى رصيدكم»، وبالإضافة إلى جشعه كان روسو فظاً ولا يحتمل الرأي الآخر، ويتهم غير المتحمسين لآرائه وفي مقدمتهم صديقه فولتير بالانخراط في مؤامرة دولية هدفها القضاء عليه، والمثير أنه رغم كتاباته عن الأطفال وإلحاحه على الاهتمام بهم ورعايتهم تخلى عن أطفاله ووضعهم في الملاجئ مدعياً أن الدولة هي الأقدر على الرعاية والتنشئة السليمة.

ومن روسو إلى شيلي وماركس وهيمنغواى وبريخت وبرتراند راسل وإبسن يواصل بول جونسون الحفر باحثاً في حياة المثقفين وسلوكهم عن الغريب والمثير والطريف أيضاً، فالكاتب النرويجي الشهير هنريك إبسن الذي يعد أحد آباء المسرح الغربي الحديث، والذي أبدع «أعمدة المجتمع – بيت الدمية – الأشباح» وغيرها كان مهووساً بالنياشين والأوسمة التي كان يرصها على صدره وحول عنقه، ويعتبرها أبلغ دليل على نبوغه وعلو شأنه وتقدير الآخرين له «كان يسير في الشارع بكل ميدالياته وأوسمته ونياشينه وأحياناً يرتديها كلها في المساء، وكان يُسعد من يدعونه للعشاء أن يأتي بدونها لأنها كانت دائماً تبعث على الضحك، خاصة ذلك الوسام الذي كان يضعه حول عنقه والذي يشبه طوق الكلب»، والطريف أن هذا الكاتب العظيم كان يتمادى في استجداء هذه الأوسمة والنياشين ويفعل أي شيء في سبيل الحصول عليها، فقد كتب إلى أحد المحامين الهولنديين طالباً منه أن يساعده في الحصول على وسام هولندي قائلاً: «هذا الوسام سيدعم موقفي هنا» ثم كتب إلى سمسار أرمني له علاقة بالبلاط المصري ليساعده في الحصول على ميدالية مصرية ستكون كما قال في رسالته «ذات أهمية كبيرة في تقوية وضعي في النرويج»، وقد أقنعه السمسار بأن مصر تتبع الإمبراطورية العثمانية وساعده في الحصول على الوسام المجيدي من تركيا.

لا نستطيع أن نزعم أن تناقضات المثقف في بلادنا ليست أفدح وأعمق، فهو بالإضافة إلى غروره وغرابة أطواره ومصالحه الشخصية ونرجسيته ابن واقع قامع وراكد لا يعرف الحوار الجاد، ولا يرحب بالتعددية، وقد انعكست تشوهات هذا الواقع على المثقفين فساند بعضهم التشظي والانشقاق الديني والطائفي والعرقي، واختار البعض الآخر دعم نظم دكتاتورية لم تشع سوى الفساد والجمود والبلادة.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top