اوباما وايران... ومؤشرات التحول


نشر في 02-08-2009
آخر تحديث 02-08-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد كشفت التحركات الأميركية المكثفة التي شهدتها المنطقة في الأسبوعين الماضيين عن تحول في الخطط الأميركية تجاه إيران، وبعد أن كانت إشارات التهدئة تجاه إيران تتوالى منذ انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، عادت إشارات التصعيد الأميركية حيال إيران تعود إلى الواجهة بعد طول غياب. أصبحت إيران على جدول أعمال إدارة أوباما سواء في القمة الأميركية-الروسية أو قمة الثماني الصناعية أو الحوار الأميركي-الصيني، بحيث بدت بوادر الحشد الأميركي الدبلوماسي ضدها تلوح في الأفق. ودائماً تتكرر عبارة على لسان المسؤولين الأميركيين بعد اللقاء مع نظرائهم الروس والصينيين: «نحن سوياً متفقون على ضرورة منع إيران من امتلاك قدرات نووية».

يقود حصر مؤشرات الأسبوعين الماضيين إلى ملاحظة المحطات الرئيسية التالية ذات الدلالة: أولاً، السماح بعبور الغواصتين النوويتين الإسرائيليتين من قناة السويس، وهي الغواصات التي تستطيع توجيه ضربات صاروخية نووية إلى إيران من منطقة بحر العرب. وثانياً، زيارة جورج ميتشيل المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط إلى سورية بهدف تقليص النفوذ الإيراني في المشرق العربي؛ فأعطى دمشق إشارات مشجعة فيما يخص نفوذها في لبنان بعد أن فكك عزلتها الدولية، وإن كان- كما هو متوقع- قد احتفظ بالعقوبات الاقتصادية كورقة مساومة في اللاحق من أعمال. ثالثاً، زيارة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس إلى إسرائيل واللقاء الذي جمعه مع وزير الحرب إيهود باراك؛ وأكد خلاله غيتس على أن الرئيس الأميركي يمهل إيران حتى نهاية شهر سبتمبر القادم للبدء في الحوار حول ملفها النووي، أي أن إدارة أوباما تحركت فعلياً وحددت مهلة زمنية لإيران بعد أن كانت ترفض ذلك طيلة الشهور الماضية.

كان لافتاً أن يشدد إيهود باراك وفي حضور غيتس على أن «كل الخيارات على الطاولة» في موضوع الملف النووي الإيراني، وهو تصريح يعد الأول في حضور مسؤول أميركي منذ انتخاب أوباما رئيساً. وتعد الإشارة الأهم في سياق التصعيد المتصل الإشارة الرابعة والمتمثلة في زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيمس جونز إلى إسرائيل وبصحبته فريق كبير يضم مسؤولين من جهاز المخابرات المركزية الأميركية، وخبراء من وزارات الدفاع والخزانة والخارجية. ولا يخفى أن فريق الأزمات هذا يمثل العمود الفقري لأي تصعيد مرتقب ضد إيران، وهو الفريق المناط به إنزال استراتيجية التصعيد الأميركية إلى أرض الواقع العملي. وتعني زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي على رأس هذا الوفد المتخصص البحث في أمور تفصيلية بين الطرفين، وليس مجرد التنسيق الفضفاض بينهما أو إعلان النوايا. ربما تعد إشارة التهدئة الوحيدة الأميركية حيال إيران في الفترة الماضية هي غض واشنطن الطرف عن اقتحام معسكر أشرف بالقرب من العاصمة العراقية بغداد من طرف الحكومة العراقية حليفة طهران، والذي يضم عناصر منظمة «مجاهدي خلق» المعارضة للنظام الإيراني. صحيح أن طهران أرادت أن تظهر لواشنطن بهذه العملية أن نفوذها في العراق أكبر من أن يتم تجاهله، وصحيح أن طهران أرسلت رسالة بموجب هذه العملية تقول فيها إن وضعها الداخلي الحالي لا يؤثر في قدرتها على حماية مصالحها في دول جوارها الجغرافي، إلا أنه أيضاً صحيح أن هذه الخطوة لم تكن لتتم دون موافقة أميركية بسبب وجود قوات الاحتلال الأميركي بالعراق.

ترجع الموافقة الأميركية على دخول القوات العراقية لمعسكر أشرف إلى أن واشنطن تريد التأثير في حسابات الجدوى الإيرانية، وأنها ترسل إشارة لطهران مفادها أنها توافق على تصفية جزئية لمنظمة «مجاهدي خلق»- دون تصفيتها نهائياً طبعاً- وبالتالي المضمون الواضح للرسالة يقول إن مصالح إيران تقتضي التعاون مع أميركا وليس مواجهتها. وتقليب النظر في الإشارة الأخيرة تعني أنها تخدم السياق الأساسي للتصعيد الأميركي ضد إيران، بالرغم من أنها تبدو إشارة تهدئة في حال فصلت عن السياق الرئيسي للإشارات الأميركية في الأسبوعين الأخيرين. وإذا اتفقنا على أهمية إشارات التصعيد ودلالاتها، واتفقنا أيضاً على ملاحظة التحول في سلوك الإدارة الأمريكية حيال إيران، يبقى لنا أن نفحص الأهداف الأميركية من وراء فرض مهلة الشهرين. هل يخفى على واشنطن أن إيران برعت في مراوغة كل المهل الزمنية التي فرضت عليها في عصر الرئيس السابق جورج دبليو بوش؟. الإجابة على الأرجح لا فالمهارة الإيرانية في مراوغة المهل الزمنية صارت سراً ذائعاً في المنطقة والعالم. انطلاقاً من ذلك فالأرجح أن تكون واشنطن تستهدف فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران، لتضاف إلى العقوبات المفروضة عليها خصوصاً بموجب القرارين 1737 و1747 لأن القرار 1803 لم يكن بشدة القرارين السابقين. ولكن بسبب تدني سقف العقوبات المفروضة على إيران فقد ظل الموقف الإيراني في موضوع التمسك بحقوقه في الملف النووي ثابتاً ومن دون تغيير.

أصبح الموقف الإيراني أكثر قوة بعد فرض العقوبات على طهران، بسبب أن إيران نجحت في فرض واقع جديد عبر استمرارها في تخصيب اليورانيوم وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي في منشآتها النووية. ويضاف إلى كل ذلك أن العقوبات الاقتصادية- إذا كان المطلوب أن تكون ناجعة فعلاً- وليست مجرد بديل لإفلاس استراتيجي (حال إدارة بوش مع إيران) يجب أن تشارك فيها روسيا والصين. وبسبب مصالح موسكو وبكين الواسعة في إيران، سيتوجب على واشنطن دفع أثمان لهما في مناطق أخرى لتحريك موقفها في موضوع إيران. والأثمان الأخيرة تعني حسابات أميركية أكثر تعقيداً بخصوص حلفاء واشنطن في الجوار الجغرافي لروسيا وبخصوص منظمة التجارة العالمية للصين وضمان نصيب لها في سوق الطاقة العالمية. وكما هو واضح لن يكون من السهل على إدارة أوباما أن تدفع هكذا أثمان. يثور سؤال منطقي هنا: لماذا يبدو التصعيد الأميركي سائراً في اتجاه فرض عقوبات اقتصادية على إيران، بالرغم من عدم التوافر الشروط الذاتية الإيرانية والموضوعية الدولية ممثلة في روسيا والصين؟. الإجابة الأقرب إلى الدقة تفيد أن إدارة أوباما تريد دفع إيران إلى طاولة المفاوضات حول ملفها النووي؛ في وقت تعاني فيه وضعاً داخلياً صعباً بعد انتخابات الرئاسة العاشرة في يونيو الماضي، وما تمخض عنها من أزمة شرعية.

يزيد من أهمية استثمار اللحظة أميركياً أن الوضع الداخلي الإيراني محتدم والرئيس محمود أحمدي نجاد في موقف لا يحسد عليه، وأن الانقسام السياسي لم يعد محكوماً بثنائية إصلاحي-محافظ كما كان قبل الانتخابات ربما، بل إن الانقسام امتد ليشمل معسكر المحافظين الذين يمكن تصنيفهم إلى: تقليديين (رجال الدين أساساً)، وبراغماتيين (علي لاريجاني ومن يمثلهم)، وأصوليين (نجاد ومن يمثلهم). وفوق كل ذلك يبدو أن إدارة أوباما تعيد ترتيب المشهد الإقليمي من حول إيران سواء بمظلة الحماية النووية في الخليج أو بالاستمرار في محاولة سحب سورية بعيداً عن إيران، وبحيث يقضي منطق المهلة الزمنية والعقوبات والترتيبات الإقليمية أن إيران سيتوجب عليها أن تهبط كثيراً بسقف توقعاتها من هكذا مفاوضات.

تختلف إدارة أوباما عن إدارة سابقه بوش من ناحية أساسية هي واقعيتها ومحاولتها تعميق الفجوات السياسية داخل إيران، وبين إيران وتحالفاتها باستخدام وسائل القوة الناعمة، أما إدارة بوش الابن فقد أمنت بالقوة العسكرية وسيلة لتغيير الواقع السياسي في الشرق الأوسط. وفي حين مرَّغ بوش واشنطن في أوحال المنطقة وخدم- من حيث لم يحتسب- إيران بتحييد خصومها، فإن أوباما يدعو إلى الحوار معها، ولكنه لا يريد أن يعطيها ثمناً لقاء مكاسب تحصلت عليها من طريق استثمار أخطاء سلفه.

ومع التسليم بالفارق الكبير بين الشخصيتين والإدارتين يبدو أنهما يشتركان في تكتيك واحد: استخدام الرسائل الإعلامية لتحقيق أهداف سياسية معاكسة، حيث أفرط بوش في التلويح بضربات عسكرية لطهران بهدف جعلها أكثر ليونة وتعاوناً في العراق وليس لضربها فعلاً، وهو ما وعته إيران جيداً وأفشلته للحق دائماً. الآن أوباما يدعو للحوار مع طهران ليس لتقنين وضعها الإقليمي كما كان يعتقد، بل بهدف الضغط عليها بقفاز من حرير؛ وصولاً إلى فرض مهل زمنية تقود إلى شكل من أشكال العقوبات الدولية، وكل ذلك مع محاولة تفعيل التناقضات الداخلية لإيران. صيف هذا العام لن يكون حاراً بمعنى استخدام الآلة العسكرية ضد إيران، ولكنه سيكون حاراً بمعنى تسخين وإنضاج خيارات متعددة تستهدف إيران ومكاسبها الإقليمية والنووية.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة. 

back to top