حكايات الغدر والموت والدم ابن الفلاح الذي توزّع دمه بين الملك والحكومة والإنكليز:حسن البنا دراما الحياة ولغز الموت (1 ـ 2)
هو حسن أحمد عبد الرحمن البنا، ولد في المحمودية، في محافظة البحيرة شمال غرب دلتا النيل، يوم الأحد في 14 أكتوبر سنة 1906، وسط أسرة ريفية متوسطة الحال. كان جده عبد الرحمن فلاحاً ابن فلاح من صغار الملاّك فنشأ الشيخ أحمد - أصغر أبنائه ووالد حسن البَنّا - نشأة أبعدته عن العمل في الزراعة، تحقيقاً لرغبة والدته، فالتحق بكتّاب القرية وحفظ القرآن الكريم وتعلّم أحكام التجويد، من ثم درس علوم الشريعة في جامع إبراهيم باشا في الإسكندرية وعمل أثناء دراسته في متجر لإصلاح الساعات، هو الأكبر في الإسكندرية، واتقن الصنعة وأصبحت في ما بعد حرفة له وتجارة، من هنا جاءت شهرته بـ «الساعاتي» إلى جانب عمله كمأذون وإمام مسجد في مركز المحمودية.أهَل الشيخ نفسه ليكون من علماء الحديث فبرع فيه وله مؤلفات كثيرة خدم فيها السنّة النبوية أشهرها كتابه «الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني». في كنفه نشأ ابنه حسن فتطبع بطباعه، وتعلّم على يديه حرفة إصلاح الساعات وتجليد الكتب أيضاً.
بدأ حسن البنا تعليمه في مكتب تحفيظ القرآن في المحمودية وتنقّل بين أكثر من كتّاب وأرسله والده إلى كتّاب في بلدة مجاورة للمحمودية. كانت المدة التي قضاها في الكتاتيب وجيزة ولم يحفظ القرآن خلالها، إذ كان دائم التبرم من نظام الكُتاب ولم يطِق الاستمرار فيه، فالتحق بالمدرسة الإعدادية على الرغم من معارضة والده، الذي كان يحرص على أن يحفّظه القرآن، ولم يوافق على التحاقه بالمدرسة إلا بعدما تعهّد له حسن بأن يحفظ القرآن في منزله.بعد إتمامه المرحلة الإعدادية التحق حسن بمدرسة المعلمين الأولية في دمنهور ثم بكلية دار العلوم في القاهرة (1923) وتخرّج فيها سنة 1927 وكان ترتيبه الأول على دفعته. في تلك الفترة كانت الكلية في أكثر أطوارها تقلباً وتغيراً، خصوصاً في مناهجها الدراسية التي أضيفت إليها آنذاك دروس في علم الحياة ونظم الحكومات والاقتصاد السياسي، فكان نصيبه أن يتلقى تلك الدروس إلى جانب اللغة والأدب والشريعة والجغرافيا والتاريخ.كانت لديه مكتبة ضخمة تحتوي آلاف الكتب في المجالات المذكورة، إضافة إلى أعداد أربع عشرة مجلة دورية كانت تصدر في مصر من بينها: «المقتطف»، «الفتح»، «المنار» وغيرها، وما زالت مكتبته لغاية اليوم بحوزة ابنه «سيف الإسلام» المحامي المعروف.شارك في التشكيلات الإسلامية أثناء دراسته الابتدائية وأنشأ مع زملائه جمعية منع المحرّمات، كذلك شارك في تظاهرات وإضرابات ثورة عام 1919، ثم التحق في الرابعة عشرة من عمره بمدرسة المعلّمين الأولية في دمنهور، فدرس الفقه الإسلامي وقرأ كتب الغزالي ثم شارك في «الطريقة الحصافية الخيرية»، إحدى الجمعيات الصوفية، هناك تعلّم أحوال الجمعيات ووسائل تنظيمها.في بداية العشرينيات بينما كانت شخصية البنا آخذة في التكوين، كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت مخلّفة نشاطاً لحركة تنوير تنادي بالانفتاح على الحضارة الغربية والفلسفة المادية وإعلاء قيمة العلم، وظهرت أصوات تطالب بحرية الفكر والتعبير والمعتقد، فكانت معركة شرسة في مواجهة القوى المحافظة التي ترى في ذلك جرأة ووقاحة من المفكرين الليبراليين والعقلانيين على الثوابت الدينية، وشهدت مصر معارك إرهاب فكري عنيفة تناثرت فيها الاتهامات بالكفر والإلحاد، ونشطت دعوات علمانية تنادي بالوطنية المصرية وفصل الدين عن الدولة، فاشتبكت معها أصوات دعاة الخلافة الإسلامية، في الوقت الذي انتشرت فيه مظاهر دخيلة على الثقافة المصرية، فضلاً عن بيوت الدعارة المرخصة التي كانت تعجّ بها شوارع القاهرة وحواريها وباقي المدن المصرية، وانتشار الخمارات بشكل يزيد على محلات البقالة، بالإضافة إلى الكباريهات وصالات الرقص، فنشأت حالة من التفسخ الاجتماعي وانهيار القيم والأخلاقيات دعمها المستعمر الإنكليزي الذي كان يحكم مصر آنذاك.تأسيس جماعة الإخوانفي هذا المناخ المتأجج بالصراعات والتناقضات تفاعلت شخصية حسن البنا، اختلطت عاطفته الدينية بعاطفته الوطنية، تأثر بفكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لكن تأثره الأكبر كان برشيد رضا، الذي يمثل مدرسة المجددين المحافظين، وأصبح رافضاً لكل ما له علاقة بالحضارة الغربية.عين البنا مدرّساً في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية بعد تخرجه عام 1927، كانت الإسماعيلية في ذلك الوقت مدينة فرنسية على أرض مصرية يسكنها الأجانب وتحميها قوات الجيش البريطاني، فتركت تلك المرحلة آثارها في حسن البنا وعمّقت فيه مشاعر الكراهية للنفوذ الأجنبي.بدأ البنا دعوته في ثلاثة مقاهي في الإسماعيلية كان يزورها مرتين أسبوعيا لإلقاء المحاضرات على روادها. في 23 مارس عام 1928 اجتمع البنا بأشخاص ستة كانوا يعملون في المعسكرات البريطانية وأعلنوا تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» تحت قيادة حسن البنا وكان آنذاك في الثانية والعشرين من عمره، فأعلن «أننا نحتاج إلى أجيال ثلاثة لتنفيذ خططنا، الجيل الأول يستمع وهو جيل التكوين وليست الطاعة شرطاً في هذه المرحلة، الجيل الثاني يحارب وهو جيل التنفيذ وهنا تكون الطاعة التامة ملزمة وواجبة، أما الجيل الثالث فهو جيل الانتصار».بحماسة لا تهدأ بدأ البنا إعداد الجيل الأول وتأهيله للدعوة، لم يدّخر جهداً لجذب الأنظار إلى الجماعة الوليدة. خلال عامين امتدت شٌعبها إلى الإسماعيلية وبورسعيد والعريش وأصبح عددها بعد أربعة أعوام عشر شعب، وفي عام 1932 رأى البنا أن الوقت حان لخطوة أوسع فانتقل إلى القاهرة.في العام التالي صدرت أول مجلة أسبوعية باسم «الإخوان المسلمين»، وزادت شعب الجماعة إلى خمسين شعبة وتأسست لها فروع خارج مصر في السودان وسورية ولبنان وفلسطين، تنادي بإعادة مجد الخلافة الإسلامية والحكم بمنهاج قرآني، وفي عام 1938 بلغ عدد شعب الإخوان أكثر من ثلاثمائة شعبة.التنظيم السريبعد مرور سنوات عشر على تأسيس الجماعة ومع نجاح الحركة وانتشارها قرر حسن البنا الانتقال إلى مرحلة التنفيذ، أي مرحلة الجهاد، الخطوة التي كان لها الأثر الأكبر في تصعيد حالة التوتر التي سبقت عملية اغتياله. ولأن البنا لا يؤمن بالطفرات حوّل الجماعة من العمل المدني إلى العمل شبه العسكري عن طريق التطوّر والتدرّج، فكوّن فرق الرحلات ثم فرق الجوّالة بمظهرها العسكري وأعدادها الضخمة التي كانت تقدّم عروضاً تظهر قوة الجماعة، ثم أنشأ نظام الكتائب وطوّره إلى نظام الأسر، وكانت هذه الأنظمة أداة تأسيس لتنظيم جديد مسلّح أشد حساسية وخطورة، قائم على السرّية التامة والطاعة المطلقة ويتم اختيار عناصره بدقة شديدة، أطلق عليه اسم «الجهاز الخاص» أو «التنظيم السري» ووضع له قانون سمي بـ «قانون التكوين»، يهدف إلى استخدام قوة السلاح والعنف لتحقيق الأهداف. بدأ التنظيم السرّي للإخوان نشاطه بإلقاء القنابل داخل الحانات التي يتجمّع فيها جنود الاحتلال، ثم تفجير قطار مخصص لنقل هؤلاء الجنود، وفي عام 1945 اغتيل رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا على يد محمود العيسوي، أحد المنتمين إلى الحزب «الوطني»، إلا أن رجال الإخوان أمثال الشيخ سيد سابق وحسن الباقوري أكدوا في مذكراتهم أن العيسوي كان من صميم «الإخوان».عام 1946 فجّر التنظيم السرّي أقسام البوليس في القاهرة رداً على قمع المظاهرات التي ندّدت بمعاهدة صدقي - بيفين، كان عدد المنتمين إلى الجماعة في تزايد مستمر وأنتقل المركز العام للإخوان إلى دار أوسع، وفي عام 1944 اشترى حسن البنا داراً جديدة استطاع أن يجمع ثمنها في غضون أيام قليلة عن طريق التبرعات.بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قرر البنا خوض المعترك السياسي بقوة بعدما أصبحت حركة «الإخوان المسلمين» ثاني أكبر الكيانات شعبية وتأثيرا في الشارع المصري، ما جعل القوى السياسية تسعى إلى التحالف معها وكسب تأييدها، هكذا نشأ صراع عنيف بين «الإخوان» وحزب «الوفد» على السيادة في ساحة العمل السياسي الوطني. كان البنا يتحرك بخطوات واثقة نحو تحقيق مشروعه إلى درجة أن البعض شكّ في أن طموح هذا الرجل سيقوده إلى إعلان نفسه خليفة للمسلمين.عام 1945 أجرت مجلة «المصور» استفتاء بين القراء حول رجل العام ففاز الشيخ حسن البنا باللقب، لكن مع حلول عام 1948 تحوّل الموقف إلى النقيض تماماً فأصبح البنا عدواً للجميع، ففي هذا العام وقعت حوادث متتابعة وخطيرة هزّت مصر وكان دور «الإخوان» الأخطر فيها من وجهة نظر الحكومة آنذاك، ورأى البعض أن حركة الإصلاح الديني تحوّلت إلى جماعة تمارس الإرهاب لتحقيق مكاسب سياسية بعلم من حسن البنا وتخطيطه.الإخوان والعربفي 17 فبراير عام 1948 حدث أول انقلاب في العالم الإسلامي، اُغتيل الإمام يحيى حميد الدين حاكم اليمن على يد المعارضين لحكمه بزعامة عبد الله الوزيري، كان لحسن البنا دور كبير في دعم هذا الانقلاب وتنشيطه وتردد أن فكرة إعداد الشعب اليمني للثورة نبتت في المركز العام للجماعة بالتعاون مع البدر حفيد الإمام يحيى.في 29 أبريل عام 1948 قررت الدول العربية إعلان الحرب ضد العصابات الصهيونية المحتلة لدولة فلسطين العربية، فتوجهت كتائب الفدائيين من جماعة «الإخوان» للمشاركة في تحرير فلسطين. بدأت صلة حسن البنا بالقضية الفلسطينية عام 1936 عندما اشتعلت الثورة العربية الكبرى فاشترك متطوعون من «الإخوان» في جمع التبرعات، وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر عام 1947 دعت جريدة «الإخوان» الجيوش العربية إلى دخول الحرب وشارك حسن البنا في تشكيل لجنة «وادي النيل» لجمع الأموال والسلاح للمتطوعين، وفي عام 1948 ردّت كتيبة من فدائيي «الإخوان» على مذبحة «دير ياسين» ففجرت مستعمرة كفار دروم وحاولت مهاجمة مستعمرة دير البلح.مسلسل الاغتيالاتفي صباح 22 مارس عام 1948 عندما كان القاضي أحمد بك الخازندار، رئيس محكمة الاستئناف، متجهاً من منزله في ضاحية حلوان إلى محطة السكّة الحديد سائراً على قدميه أفرغت في صدره رصاصات من طبنجة عيار 9 مل ماركة «برت»، وكان الهدف الانتقام من الخازندار وإرهاب رجال القضاء إذا حكموا على متهمين بقضايا مشابهة، بذلك أصبحت أهداف الجهاز غير محصورة في مقاومة الاستعمار والصهيونية.اتجه القاتلان صوب الجبل المحيط بمنطقة حلوان فحاصرتهما الشرطة وقبضت عليهما، وبعد خمسة أشهر حُكم على المتهمين حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم بالأشغال الشاقة المؤبدة.في 15 نوفمبر عام 1948 وفي سقطة خطيرة انكشف النظام الخاص لـ «الإخوان» أمام الأجهزة الأمنية، إذ عثر البوليس المصري في أحد شوارع العباسية بالصدفة على سيارة جيب من دون أرقام تحتوي قنابل وأسلحة وذخيرة ومتفجّرات ومخططات لعمليات نسف السفارتين البريطانية والأميركية، بالإضافة إلى وثائق تحتوي أسماء أعضاء التنظيم والشفرة السرّية للاتصال بينهم ودراسات حول أهداف مزمع تدميرها، فاتضح من الوثائق والمضبوطات أن «الإخوان» مسؤولون عن حوادث التفجير التي وقعت في الأشهر الأخيرة، فشكلت دليلا قاطعاً على إدانة الجماعة وعقلها المدبر.في صباح 4 ديسمبر اغتيل اللواء سليم زكي، حكمدار شرطة القاهرة، على يد طالب في جامعة فؤاد الأول، أذاعت الحكومة أنه ينتمي إلى تنظيم «الإخوان»، فبلغ التوتر بين الجماعة والحكومة السعدية ذروته، في اليوم نفسه طلب حسن البنا من حامد جودة، رئيس مجلس النواب، التوسط لدى النقراشي باشا، رئيس الوزراء، لبدء صفحة جديدة بين الحكومة والجماعة، لكن قوبل طلبه بالرفض، فأدرك المرشد خطورة الموقف.بذل البنا جهوداً مستميتة لإنقاذ الموقف وحاول الاتصال بالملك فاروق وابراهيم عبد الهادي، رئيس الديوان الملكي، لكنه لم يلقَ أي ردّ وكان العدّ التنازلي قد بدأ.حـلّ الجماعةفي 6 ديسمبر صدر أمر بإغلاق صحيفة الجماعة وأعلن العنوان الرئيس لجريدة «الأساس»، لسان الحزب السعدي الحاكم، أن أنباء سارة ستذاع قريباً، بعد يومين صدرت أوامر لقوات «الإخوان» في فلسطين بالعودة إلى المعسكرات، وفي العاشرة مساء اتصل عبد الرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية، بحسن البنا ليبشره بأن هناك أوامر جديدة ستعلن من شأنها إنقاذ الموقف، فتجمّع أعضاء الجماعة في المركز العام حول الراديو بانتظار القرارات.في الحادية عشرة مساء أذاع الراديو الأمر الصادر من الحاكم العسكري العام رقم 63 لسنة 1948 بحلّ جماعة «الإخوان المسلمين» بكل فروعها في البلاد ومصادرة أموالها وممتلكاتها.بعد دقائق حاصرت قوات الشرطة المبنى وقبضت على كل من فيه. انتظر البنا دوره لكن لم يتعرّض له أحد، فتشبث بسيارة البوليس لكنهم أبعدوه، كانت الأوامر تقضي بالقبض على كل أعضاء الجماعة عدا حسن البنا.كان من المتوقع أن تكون هناك ردة فعل على قرار الحلّ، بل توقّع النقراشي باشا أن يتم اغتياله، فشدد الحراسة حوله وحول بيته، لكن كل تحركاته كانت مرصودة بدقة. كان محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء ورئيس الحزب السعدي والحاكم العسكري العام فضلا عن كونه وزيراً للداخلية والمالية، فقررت عناصر من الجهاز الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي اغتياله عقب قرار حلّ الجماعة وبدأت التخطيط لهذه العملية.على غير ما توقّع النقراشي ورجال أمنه، اغتيل داخل بهو وزارة الداخلية نفسها وأمام أعين ضباط الشرطة، إذ ارتدى أحد الشباب بدلة ضابط ودخل عليه في المصعد وأطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلا في عقر داره وبين حرسه وقواته، كان ذلك في العاشرة من صباح الثلثاء في 28 ديسمبر عام 1948.في هذه الأجواء المحتقنة وعلى الرغم من حصار المرشد العام في بيته والقبض على عبد الرحمن السندي في قضية السيارة الجيب، إلا أن ذلك لم يمنع عناصر من التنظيم من تنفيذ عملية جديدة، ففي صباح 13 يناير دوّى انفجار أمام مبنى محكمة الاستئناف في باب الخلق. باعتراف شفيق أنس، منفذ العملية، خطّط سيد فايز، المسؤول الجديد للتنظيم، للعملية وأمر بالتنفيذ بهدف التخلّص من ملفات القضية.المؤامــرة 66 يوماً فصلت بين ليلة اعتقال أعضاء الجماعة وليلة اغتيال حسن البنا، تلك كانت أيامه الأخيرة عاشها ينتظر أن يتم اغتياله بين لحظة وأخرى، وقد أكّدت له كل الشواهد ذلك، فوجه خطاباً إلى محافظ القاهرة يقول فيه: «أشعر بأنني مهدد بالقتل وأرجو تعيين جندي مسلح لحراستي على نفقتي الخاصة»، لكنه لم يلقَ رداً، فأفضى إلى من بقي حوله رؤية تكررت في منامه وفسرّها بالتالي: «مهمتي انتهت أنا غائب عنكم غيبة طويلة». بقدر ما كانت مهمة المجني عليه معقّدة وحسّاسة كانت مهمة الجاني أيضاً. لم يكن من السهل اغتيال رجل مثل حسن البنا.كان البنا شخصية بالغة التفرد اتفق أعداؤه ومؤيدوه على أنه كان شديد الذكاء حاد الذاكرة، ثقته بنفسه لا حدّ لها، يحمل إيماناً عجيباً بفكرته ويسعى دائماً إلى كسب الأصدقاء، ينام في اليوم خمس ساعات ويأكل ما حضر من الطعام ويولي مظهره اهتماماً كبيراً. عُثر معه بعد اغتياله على ستة جنيهات هي كل تركته ومسبحة رخيصة تتألف من 99 حبة. استطاع في غضون 15عاماً أن يزور قرابة ألفي قرية مصرية، كان حديثه ساحراً وأسلوبه بسيطاً، يحمل دعوته إلى الناس بيسر ويشرحها بألفاظ سهلة ومن دون تكلف، له قدرة فذة على التأثير في مستمعيه، استطاع في سنوات قليلة أن يجمع أعداداً هائلة من المخلصين لفكره ولشخصه، اعتاد إلقاء محاضرة كل ثلثاء أمام مؤيديه الذين كانوا يتهافتون للإستماع إلى حديث «المرشد»، كما أحب أن يُلَقّب، سمي هذا اللقاء الأسبوعي «حديث الثلثاء».في القائمة التي وضعتها مراكز الأبحاث في فرنسا وأميركا حول أهم مائة شخصية أثّرت في العالم في القرن العشرين، كان من العالم العربي اثنان هما: جمال عبد الناصر وحسن البنا.صباح 12 فبراير كان هناك من يعتقد أن حسن البنا حانت ساعته، حُدد المكان أمام جمعية الشبان المسلمين التي تقع في شارع الملكة نازلي المسمى حالياً بشارع رمسيس، إنه المكان نفسه الذي شارك حسن البنا في تأسيسه واعتاد أن يتردد عليه في الفترة الأخيرة لإجراء المفاوضات مع ممثلي الحكومة بشأن الإفراج عن المعتقلين من أعضاء جماعته.في الثانية عشرة ظهرا ذهب محمد الناغي، أحد أقرباء رئيس الوزراء، إلى مقر عمله في جمعية الشبان المسلمين وطلب من محمد الليثي، سكرتير قسم الشباب في الجمعية، أن يذهب إلى الشيخ حسن البنا ويدعوه إلى جلسة مفاوضات جديدة. قبل الليثي على الرغم من خوفه، لأنه كان يعلم أن كل من يقترب من بيت الشيخ حسن البنا يُقبض عليه. في الثانية بعد الظهر وصل محمد الليثي إلى منزل حسن البنا وأخبره بأمر اللقاء مع الناغي في مقرّ جمعية الشبان المسلمين.كان البنا يفاوض الحكومة على مطلب واحد لا غير، الإفراج عن المعتقلين، ليتاح له تقديم معلومات عن الأسلحة والإذاعة السرية، في الثامنة مساء استأذن محمد الناغي معللا ذلك باعتياده النوم مبكراً، فتأهب البنا وصهره للانصراف وطلبا من عوض ساعي الجمعية استدعاء سيارة أجرة.(يتبع)