انبثاق الذاكرة


نشر في 28-04-2010
آخر تحديث 28-04-2010 | 00:01
 زاهر الغافري يحتمي الإنسان بالنسيان. تحتمي الطبيعة بالفصول في دورة متكررة إلى ما لا نهاية. يلجأ الكاتب إلى وسيلة ماهرة وماكرة في نفس الوقت: أن يخدع الذاكرة والواقع معاً، بخيطٍ من التخيلات وشبكات من الرموز المعقدة. أن تكتب هو أن تنسى، وأن تستحضر الأشياء، هو أن تُعيد ترتيب غيابها. لا يحضر الشيء في الكتابة، بل ظله، غيابه، ذلك الأثر الخفيف المستحضر بقوة الكلمة، حتى إن كان للكلمة فعالية مادية. تكتب كأنك في ليل الوعي. يلعب النسيان هنا، دور الخادم فتظهر ظلال الأشياء عبر ذاكرة مصفاة، أكثر ألقاً وشفافية. لا تجهل الكتابة ذاتها، لهذا فهي عصية، مربكة، صعبة الاستسلام.

ولهذا، ربما أيضاً لا يرضى الكاتب بما يكتب، وإذا رضي، فأنه واهم وتكون الكتابة قد خدعته، لأن النسيان غير مكتمل، ولا تستجيب الكتابة لذاكرة تطفو فوق السطح وتفتقد الجذور، أي النسيان.

كان مارسيل بروست قد امتلكهُ النسيان، وإلا لما كتب «البحث عن الزمن الضائع»، ما الذي أحضر «الزمن الضائع»؟ طعم الكعك بالشاي فـ»تذكّر» فانبثق نبع من وادٍ سحيق.

ألا يحدث أحياناً، أن نشم بالصدفة رائحة ما، أو نتذوق طعماً ما، فإذا بالذاكرة تقودنا الى رائحةٍ مشابهةٍ أو طعمٍ مشابهٍ، في طفولتنا أو في أزمنة قصية من أعمارنا، ذلك لأنه لو لم ننسَ لما تذكرنا.

يقول بروست في افتتاحية «طريق سوان»: «إن رائحة الأشياء وطعمها يظلان في الجو، زمناً طويلاً، كالأرواح جاهزة لتذكيرنا.... منتظرة اللحظة المناسبة». بهذا المعنى يذهب أيضاً، م. ل. روزنتال في كتابه «الشعر والحياة العامة» ليذكر، ييتس في قصيدته «الشيطان والوحش»، معلقاً عليها بأنها تنطلق من النسيان بدلاً من التذكّر، وهي قصيدة تستوحي عالم الشيخوخة، «عندما تتهاوى الضوابط التي تسيطر على وعينا».

ولكن سرعان ما انبجست دمعة

إذ استوقفتني سعادة تائهة

على شاطئ بحيرة صغيرة

لأشاهد نورساً أبيض

ينقضُ على لقمة ألقيت في الهواء،

ثم يحوم هنا وهناك.

* * *

لقد أراد مارسيل دوشامب، أن يقوم بتكسير مزدوج للذاكرة. أحضر (مِبولة)، اقتناها من سوق العاديات ووضعها في زاوية مهملة في محترفه. بعد زمن التفت إليها وعرضها أمام الجمهور في واحدٍ من معارضه، فاستغرب الجمهور بالطبع، لكن مارسيل دوشامب بعمله هذا، وجّه سؤالاً قاسياً وجذرياً الى الفن، أراد أن ينسى تماماً كل ماتعلّمه عنه، وأن يستفز الجمهور بصوت عالٍ. لماذا نسيتم المِبولة؟ المِبولة أيضاً عمل فني، سيلتقطُ هذه الفكرة ولكن في زمن آخر، وبتصعيد مختلف، تلميذه الأميركي آندي وارهول.

back to top