تركيا والانقلاب الذي فشل

نشر في 14-03-2010 | 00:01
آخر تحديث 14-03-2010 | 00:01
 إبراهيم كالين إن الكشف عن الخطة التي أعدها بعض كبار المسؤولين العسكريين لزعزعة استقرار الحكومة التركية- التي أطلق عليها مسمى "عملية المطرقة الثقيلة"- وما أعقب ذلك من اعتقال قادة عسكريين من ذوي الرتب العالية، يبرهن على القوة المتنامية للديمقراطية التركية. فضلاً عن ذلك فإن الجهود التي بذلها ممثلو الإدعاء للكشف عن الحقيقة لم تشتمل على شبهة التحامل أو محاولة تشويه سمعة الجيش التركي، كما يدعي البعض؛ ولم يسفر الكشف عن "عملية المطرقة الثقيلة" عن مواجهة ناشئة بين "العلمانيين" و"الإسلاميين".

إن المجتمع التركي- وسياساته- أكثر تعقيداً من أن نتعامل معه بمثل هذه الصيغ المبسطة. ورغم ذلك فإن تركيا تمر بلحظة بالغة الخطورة، وذلك لأن هذه اللحظة قد تكون بمنزلة نقطة التحول من عقود من الهيمنة العسكرية على الساسة المدنيين في البلاد- وبالتالي الانتقال إلى نظام ديمقراطي ناضج.

إنه لأمر محزن أن نقول إن "عملية المطرقة الثقيلة" كانت مجرد مؤامرة انقلاب مزعومة أخرى في سلسلة من المحاولات لإسقاط حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي انتخب لأول مرة في عام 2002. وطبقاً للدستور التركي فمن غير القانوني أن تحاول أي جهة، حتى المؤسسة العسكرية، إسقاط حكومة منتخبة ديمقراطياً. ولو كان مثل هذا الانقلاب قد حدث بالفعل، ناهيك عن نجاحه، لكان من الممكن أن يضع حداً لطموح تركيا إلى الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي.

والواقع أن تقارير الاتحاد الأوروبي بشأن تقدم تركيا كانت تثير دوماً قضية النفوذ العسكري غير المتناسب في السياسة التركية، وعدم تقبل بعض ضباط الجيش التركي للخضوع للسيطرة المدنية. ومن الثابت أن الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدتها تركيا في عام 1960، ثم في عام 1971، ثم في عام 1980 لم تجلب الازدهار ولا الاستقرار للبلاد. أما "الانقلاب الناعم" الذي شهده عام 1997، حيث أرغمت المؤسسة العسكرية حكومة منتخبة ديمقراطياً على الاستقالة، فقد خلَّف ندوباً عميقة على نسيج المجتمع التركي. ولقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الغالبية الساحقة من الأتراك يحترمون الجيش شريطة أن يظل داخل ثكناته.

طبقاً للأدلة التي جمعتها النيابة العامة التركية، فقد تم تدبير أربع محاولات انقلاب منذ تولى حزب العدالة والتنمية السلطة. وفي السابع والعشرين من أبريل 2007 أصدرت القوات المسلحة التركية بياناً يعارض ترشيح عبد الله غول، نائب رئيس وزراء تركيا ووزير خارجيتها آنذاك، لمنصب الرئاسة، محذرة من انزلاق تركيا إلى حالة من الفوضى إذا انتخب غول رئيساً لها، ولكن محاولة الترهيب فشلت وفاز غول.

ولقد اعترف الجنرال يشار بويوكانيت، القائد الأعلى للقوات المسلحة التركية آنذاك، اعترف أخيراً بأنه دوَّن بنفسه مذكرة السابع والعشرين من أبريل. وفي الرابع عشر من مارس 2008، افتتح رئيس النيابة العامة التركي تحقيقاً يهدف إلى إغلاق حزب العدالة والتنمية استناداً إلى حجة مفادها أن الحزب كان عازماً على مخالفة الحظر الدستوري الذي يمنع الترويج للدين، لكن الدوافع وراء تلك القضية كانت نابعة في الأساس من اعتبارات سياسية وإيديولوجية، حيث تم جمع الأدلة من قصاصات الصحف ومقالات الرأي المناهضة للحكومة.

إن "عملية المطرقة الثقيلة" ليست سوى أحدث محاولة انقلاب يتم الكشف عنها، وتعود إلى عام 2003. فطبقاً لصحيفة "تاراف" التركية اليومية، التي تسربت إليها تفاصيل المؤامرة، فقد قام المتآمرون بإعداد خطة تتألف من خمسة آلاف صفحة لخلق الفوضى في تركيا عن طريق إحراق المساجد، وإسقاط الطائرات العسكرية اليونانية، وتنفيذ عمليات اعتقال جماعية لهؤلاء الذين يعارضون المؤسسة العسكرية. وكان المقصود من كل هذا تمهيد الأرض لاستيلاء المؤسسة العسكرية على السلطة.

ويرى بعض المنتقدين أن هذا التخطيط كان مجرد "مناورات" لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. ولقد قيل نفس الشيء من قِبَل مسؤولين عسكريين بارزين عن مؤامرة أخرى أطلق عليها مسمى "خطة العمل لمكافحة الأصولية الدينية"، والتي صاغها العقيد دورسون جيجيك. وفي السادس والعشرين من يونيو 2009، وصف رئيس الأركان العامة الجنرال ايلكر باسبوج خطة العمل بأنها "مجرد قطعة من ورق". وبعد ثمانية أشهر، خلصت اللجنة العسكرية التي تولت التحقيق في القضية إلى أن الخطة كانت تهدف في الواقع إلى الإضرار بحزب العدالة والتنمية والحكومة وتشويه سمعتهما.

وإن لم يكن كل ما سبق يشكل انتهاكاً للمبادئ الديمقراطية، فإن المرء لا يملك إلا أن يتساءل ما الذي قد يشكل انتهاكاً لها إذن. فليس من الممكن أن نتصور أن أي نظام ديمقراطي قد يسمح بمثل هذه التدخلات من جانب مؤسسته العسكرية تحت أي ظرف من الظروف.

ورغم ذلك فإن المنتقدين مازالوا مصرين على فهم السبب الجذري وراء هذه الجهود بصورة خاطئة. فهم يحاولون تصوير الأمر وكأنه مواجهة بين "حزب العدالة والتنمية الإسلامي" والعلمانيين المحبين للديمقراطية. حتى أن المجادل الأميركي دانييل بايبس ذهب إلى حد تأييد الانقلابات العسكرية في أعوام 1960، و1971، و1980، و1997، زاعماً أن انقلاباً واحداً من بين أربعة انقلابات حدثت أثناء الفترة من عام 1960 إلى عام 1997 ضل الطريق. والواقع أن المرء ليتساءل ما إذا كان بايبس قد يتقبل استيلاء المؤسسة العسكرية الأميركية على الحكومة الأميركية إذا ما قررت من جانب واحد أن السياسات الأميركية قد ضلت الطريق.

إن حقيقة الكشف عن هذه المخططات تُعَد في حد ذاتها دلالة واضحة على نضوج الديمقراطية التركية. والتحقيقات القانونية الجارية الآن لا تشكل مواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، ولا تشكل حملة لتشويه سمعة جنرالات تركيا، بل إنها تشكل جزءاً من عملية التطبيع، وترسيخ السيطرة المدنية المطلقة على المؤسسة العسكرية، والتأكيد على مبدأ ألا أحد فوق القانون.

* كبير مستشاري السياسات لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان.

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"

back to top