محطة افتراضية 2

نشر في 19-09-2009
آخر تحديث 19-09-2009 | 00:01
 زاهر الغافري قلتُ: كان عليك أن تستفز قوة الخيال من داخلك، أن تدحرجه على نحو غير متوقع، بأصالة ومحبة وأنت تتقدم من الخلف، وهي تعطيك ظهرها وشعرها الأسود الطويل ينسرح على كتفيها.

كان يمكن حينها أن ترمي الجملة الأولى وأنت واثق بأن المرأة ستستقبلها كما تستقبل المحارةُ حبةَ رملٍ ثمينة. لماذا لم تفعل ذلك؟ لا بأس أتريد أن تعيدَ الكرّة.

ليكن الأمر إذن كالتالي:

هي واقفة على رصيف المحطة، القطار سيأتي بعد قليل.

إنها تفكر: لمَ تأخرَ، لمَ لمْ يأتِ، كان ينبغي أن أكون أكثر جمالاً من الموت، لقد حلّق بقامته الطويلة، رأيتُ ظله على بلاط المحطة، لكنه لم يكلمني، على الأرجح انه خائف أو جبان أو متردد، ولكي يكون غضبي أكثر تماسكاً مع الطبيعة أهملتُ شعري وتركته هكذا ينسرح، على كتفي.

الملعون لم يعرف أنني لستُ بينيلوب ولا أنسج شيئاً، كنتُ أنتظر فحسب ويداي فارغتان ومهملتان.

أقسم بأنني لم أرَه، بلى، رأيته قليلاً بعين منحرفةٍ، بمنظور لم يكُن حينها كافياً لالتقاط الزخم اللولبي لحركتهِ السريعة الضائعة، في المكان وبين الوجوه.

وهاأنذا الآن في هذا القطار الذي سيحملني الى محطة اخرى.

من النافذة أستطيع أن أرى الضواحي المترامية، على مد البصر، كان ينبغي أن يأتي لكنه لم يفعل، وعلي الآن أن أخترع مجيئه، وعندما أصل، سأجتاز الزقاق المظلم ذاته، سألتفت الى الخلف، كما لو كنت امرأة ينهشها جوع الماضي.

لن أرى ظلّه، لن أحسّ إلا بريح خفيفة، تطرد أوراق الليل وتعيد كنس تعبي. النافذة مظلمة. النافذة البعيدة تلك مظلمة كحياتي تماماً.

سأفترض أن مطراً خفيفاً يرطّب رصيف المحطة هناك.

واقف على الرصيف، يتأمل حياته كمن يتأمل في كنز ضائع، أعرف أنه سيجرّ خطاه الى أقرب مقهى أو حانة وسيجلس وحيداً كعادته، رأسه بين يديه، وهو ينظر الى الطاولة ولا يراها.

اما أنا فسأصعد السلّم الخلفي المؤدي الى غرفتي في الطابق السادس، سأصعد وحيدة، سأفتح الباب وأرمي المفتاح على الطاولة.

لن أشعل المصباح، سأرتمي مباشرة على السرير، وأفكر بأنه كان ينبغي أن يكون مجنوناً أكثر، كان ينبغي أن يستيقظ بعين ثالثة، كان ينبغي أن يتسكع بين عالمين، بين محطتين.

كان ينبغي أن يرى طيف المرأة التي هي أنا، المرأة الشبيهة بالنار والتراب، الراقصة بين أعمدة الهواء والماء. أنا المرأة النائمة بجبين من ذهب.

back to top