سليم نكد في على إيقاع الزمن البساطة الآتية من رحم الصّعب

نشر في 07-10-2009 | 00:00
آخر تحديث 07-10-2009 | 00:00
No Image Caption
دفعت الحداثة في الشعر العربي إلى استسهال الكتابة على حساب الجودة والإبداع. وتحوّل الشعراء الذين يتمتّعون بالموهبة ويتّصفون بالأصالة قلّة، ومنهم من تعرّض للتجاهل والتغييب لأنّ ساحة الشعر العربي إعلاميًّا هي برسم أهل الحداثة الحاكمين بأمرهم في معظم وسائل الإعلام المرئيّ والمكتوب والمسموع.

«طفرة» الحداثة المستشرية لا تعني مطلقًا أنّ الملتزمين بالقصيدة الكلاسيكيّة وقصيدة التفعيلة هم كلّهم كاملو الأوصاف شعريًّا، فالكثيرون منهم نظّامون ذوو معرفة لغويّة، غالبًا ما تكون متواضعة، وأذن موسيقيّة، غير أنّ كلمتهم لا نسغ في عروقها وفي صدورهم ضجيج موهبة مزعومة.

«على إيقاع الزمن» جديد شعريّ للشاعر سليم نكد يضمّ باقة قصائد موزّعة بين قصيدة التفعيلة والقصيدة العموديّة، تُظهر شخصيّة شاعر يطرق أبواب القوافي أصيلاً لا دخيلاً، وله ظلال تشبهه وجملة ذات رحيق متفرّد ميزتها البساطة الآتية من رحم الصّعب بعيدًا من العادي والمبتذل على وضوح لا يصادر المساحات المخصّصة للإيحاء. وكلمة نكد وليدة معاناة، تستمدّ ألقها وجمالها من وجعها على بساط الحياة.

في قصيدة «حكاية» يغوص نكد إلى العمق الإنسانيّ مستعينًا بحكاية بطّة هي بنت خياله ليرسم شخصيّة الإنسان الذي لا يقدّر نعمة يعيشها، ويسعى إلى مصير يظنّه الأفضل والأكثر هناء، لكنّه سرعان ما يكتشف أنّه أمسى فريسة مجهول، أمامه زمن طاعن في السواد وخلفه فردوس مفقود. «بطّة» الشاعر كانت تعيش على ضفاف بركة استثنائيّة: «مياهها صافية زرقاء / كأنّها تنصبّ فيها زرقة السماء»، لكنّ البطّة المفتونة بنفسها، المحاطة بأهلها والأصدقاء تتفرّغ لعبادة جمالها ولهاجس الرحيل إلى مكان آخر، هو كناية عن «... بحيرة كبيرة بعيدَهْ / تكون فيها وحدها آمرة ناهيَهْ». عبثًا ذهبت محاولات جارتها لإقناعها بالبقاء، وعبثًا ذهبت كلمات الحبّ والحنان. بترت البطّة ذاكرتها، وأدارت ظهرها والجناحين للوفاء والخبز والملح ولجارة «مسحتْ عن خدّها الأدمعا»، وانطلقت مستكترة على أهلها لحظة الوداع. وصلت إلى البحيرة الكبيرة بعد طول سفر، وظنّت أنّ خيالها تجسّد حقيقة، ورأت سمكة «كأنّها شظيّة من نجمة / أو ريشة من ذهب»، وسارعت إلى طلب صداقتها، أمّا السمكة فرفضت لأنّها فكّرت في أن تكون البطّة: «قد غادرت والدة حنون/ خانت صديقًا ربّما/ ما ظنَّ يومًا أنّها تخون»... ويعرف نكد كيف يسرد مراعياً شعريّة النصّ، ويعرف أيضًا كيف يوقف السّرد لصالح الكشف عن الشخصيّة والولوج إلى العمق الإنسانيّ، فالبطّة والسمكة نموذجان مأخوذان من عالم الإنسان وكلاهما يتحرّك بخلفيّة إنسانيّة عميقة، وكم من البشر اعتقد وهمًا بأن سماء بيئته وأرضه وناسه تضيق بجناحيه، وطرد من صدره الوفاء وسلخ عنه جلده، وخلع عنه دنياه الجميلة وارتدى دنيا أخرى لم تكن سوى الفجيعة وعصفت في وجدانه فكرة الرجوع بعد فوات الأوان؟

البطّة التي كانت تطير على ضفاف بركتها الخرافيّة الجمال أصبحت تجرّ جناحيها الثقيلين عند شاطئ البحيرة. ولهذه الرمزيّة قدرة لافتة على البوح والإيحاء وتجسيد بعد النص الإنساني، الذي يصل إلى ذروته في نهايات القصيدة: «منقارها يرسم في التراب / آمالها، أحلامها الكسيرة / في رحلة طويلة العذاب». وكم هي رائعة صرخة الغفران على لسان جارة البطّة: «ها عاقبتْها يا ترى السماء؟ / أنا... أنا سامحتها / أدعو لها أن تغفر السماء».

في قصيدة «العيد» يستمرّ نكد نابضاً بوجع الإنسان، ويمسح قلمه برداء الأمومة، ويكتب على ورقة بيضاء يلهو بها طفلٌ، فالأمّ تعد ولدها بالعيد القريب الآتي بعد يومين، بينما ابنها الصغير يحسب ببراءة الطفولة: «ما أطول اليومين / أنام ليلة وليلة / ويطلع الصباح مرّتين؟/ هل كلّ عيد / يجيء دومًا من بعيد؟» نعم، صغير نكد على حق، والعيد هو دائم الوجود في الرّجل الكبير، هذا الصغير هو الإنسان بكلّ بساطة، الإنسان الذي لا قدرة له على الحياة لولا انتظار العيد... ويصل العيد والولد يسأل: «ماما! لماذا الناس يركضون يعبسون؟/ البعض منهم يضحكون / لكنّهم لا يفرحون». فالمسافة تطول بين الفرح والضحك وإذا كانت الضحكة بوّابة إلى الفرح، فإنّها البوّابة المصنوعة من خشب حزين لأنّ الفرح المفترض وجوده خلفها هو احتمال بعيد. والحقيقة المُرَّة هي أنّ انتظار العيد هو العيد.

أمّا في قصيدة «الأشياء والكلمات» فيمدّ الشاعر نكد الحديث شهيًّا عند صعوبة التعبير لكي يأتي جميلاً كالأشياء الجميلة التي تودّ القصيدة معانقتها. ويعود الكلام ليدور بين الولد وأمّه، فالولد منهمك بين كتابة ومحو وهمُّه: «كيف تأتي الكلماتْ / حلوة في وصف أيّام الربيع / مثل أيّام الربيع؟». يجاذب الكلمات على صغر، وتخونه العبارة في اصطياد طائر الدهشة، على رغم أنه محاصرٌ بالجمال وكلّ ما حوله جميل، لكنّ دخول الجمال إلى الحبر في منتهى الصعوبة، ونقل الرقص بالكلمات في منتهى الصعوبة، وحمل الصوت بالكلمات في منتهى الصعوبة... وللوصول إلى أن تقول الكلمات ما يقول الشعور وما يقول الحلم لا بدّ من جلجلة طويلة. وتحاول الأمّ تعزية ولدها بأنّه صغير، وستزوره: «كلماتٌ حلوة بل جمل/ أحلى وأكثر»، عندما يكبر، ويصبح: «مثل بابا / مثله تكتب أشعارًا عذابا»، وكأنّ الأمّ، أو الشاعر الأب من خلال الأمّ يريد ابنه شاعرًا يرث هواية البحث عن الألم الجميل، ويجذّف بعيدًا في مياه القصيدة. وللمعلّم حضور عميق وأنيق في وجدان سليم نكد يتجلّى في قصيدتين: «عيد المعلّم»، و{المعلّم». في قصيدة «المعلّم» يرى نكد حَمَلة الطبشور كائنات نورانيّة: «تَعَلَّق مذ تفتّح ناظراكا / خيوط النور فاحتضنت يداكا»، فالمعلّم يرفع قلبه قنديلاً لقلوب طلابه، ويتخلّص من شقائه بابتسامتهم: «يؤالفك الشقاءُ وأنت ترنو / لتلمح في ابتسامتهم هناكا»، ليبدو التعليم رسالة خَلْق وافتداء، وإذا كان لا بدّ من أوسمة فالمعلّم أولى الناس بالوسام: «وهل هوذا الوسام يزين صدرًا / أم القلب الكبير يزين ذاكا»، وحقًّا قلب المعلّم وسام على صدر الدنيا، وهو فوق الأوسمة كلّها. وفي القصيدة نفسها يغمز الشاعر من قناة الحداثة في الشّعر العربيّ: «فباسم «حداثة» شوهاء خرقاء / دِيسَ الفنُّ، أسمى مبتغاكا»، ويطلب من المعلّم الاستمرار في صناعة الغد إذ ليس للفكر والخلق سنُّ تقاعديّة، والمعلّم يحمل لقب المسيح وحامل الرسالة لا يستقيل: «معلّم! كالمسيح دُعيت! فاحملْ / رسالته ليصدق مَن دعاكا»...

سليم نكد في «على إيقاع الزمن» شاعر يعتمر الأصالة ويهدي إلى عشّاق القصيدة فرحًا طالعًا من محبرة شهيّة.

back to top