وليد جنبلاط ومناوراته السياسية

نشر في 21-08-2009
آخر تحديث 21-08-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد كل عام وأنتم بخير بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك أعاده الله على الأمة كلها باليمن والبركات، أنتهز فرصة مقالي الأخير بجريدة «الجريدة» لأتقدم لكم أعزائي القراء بشكري العميق على اهتمامكم الرائع بمقالاتي ومحبتكم الغامرة لشخصي المتواضع، والتي عبرت عنها العديد من المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والتي أعتبرها نيشان ثقة ومحبة به أفتخر وأعتز. كما أتقدم بالشكر إلى «الجريدة» التي أشهد أنها لم تحجب يوماً مقالاً أو تحذف حرفاً واحداً من أي من مقالاتي البالغ عددها الإجمالي 125 مقالاً على مدار عامين كاملين؛ في مثال رائع على تبنيها لحرية الفكر والتعبير.

بديهي ألا يقتصر مقالي الأخير على الشكر والتوديع بل يتطرق أيضاً إلى قضية مازالت تشغل المهتمين بالشؤون اللبنانية وبقضايا المنطقة منذ أسابيع، لأن لبنان هذا البلد الصغير والرائع يجسد كل تناقضات ومميزات المنطقة في آن معاً. القضية هي الزلزال الذي فجره الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بانسحابه من تحالف الرابع عشر من آذار. ويستمد زلزال وليد بك- كما يحب أنصاره أن يسموه- أهميته من أن خطوته تقلب توازنات لبنان السياسية إلى الحد الذي يجعل مفاعيلها المحلية والإقليمية مستمرة إلى فترة قادمة. ولأن عدد مقاعد البرلمان اللبناني 128 مقعداً حصلت «الأقلية» منها على 57 مقعداً مقابل 71 مقعداً حازت عليها «الأكثرية» بما فيها 11 مقعداً حصل عليها أنصار وليد جنبلاط، تترتب معادلات جديدة في البرلمان مفادها أن «الأكثرية» لا تستمر كذلك لأنها تملك فعلياً الآن 60 مقعداً فقط وأن «الأقلية» يمكن أن تصبح بقرار من وليد جنبلاط هي «الأكثرية» في حال انضم إليها!. كيف يمكن تفسير ما حدث؟ خصوصاً أن وليد جنبلاط كان حليفاً للمرحوم رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، وكان حتى وقت قريب حليفاً لابنه الشيخ سعد الحريري المنوط به تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات. ينعي المعارضون لخطوة وليد بك عليه أنه كان أكثر الصقور في فريق الرابع عشر من آذار تشدداً حيال سورية ورئيسها؛ الذي هاجمه جنبلاط بضراوة وبصورة شخصية غير مسبوقة في الاحتفالات الحاشدة لقوى الرابع عشر من آذار. كما كان الزعيم الدرزي أبرز المنتقدين لنظرية «ولاية الفقيه» و«حزب الله» اللبناني ومن خلفهم إيران وسياساتها، التي طاب له أن يصفها دوماً بـ«مؤامرات فارس» استدعاء لحساسيات تاريخية بين العرب والإيرانيين.

ويتذكر المعارضون لخطوة وليد بك أنه أشعل بضغطه المتوالي على حكومة فؤاد السنيورة أحداث السابع من أيار 2008 بإصراره على تفكيك شبكة اتصالات «حزب الله»، بل إنه هدد حتى باستقالة الوزراء التابعين لحزبه في حال لم يتحقق ذلك. وعندما تم ذلك وحصل ما حصل من دخول مسلح إلى بيروت من طرف مسلحي المعارضة، كان وليد بك أول المتفاهمين مع الفريق الآخر من وراء الستار حتى قبل الذهاب إلى الدوحة. قبل شهور سربت مواقع صحافية متفرقة شريطاً مصوراً لوليد بك في جلسة مع أنصاره يصف الموارنة في لبنان باعتبارهم «جنساً عاطلاً»؛ في خطوة اعتبرها الكثيرون وقتها تسريباً متعمداً كي يمهد لما سيقوم به لاحقاً. الآن- يقول المعارضون- يأتي وليد جنبلاط ليعلن انسحابه من تحالف الرابع عشر من آذار قبل تشكيل الرئيس المكلف سعد الحريري لحكومته، وهو ما يفتح الباب أمام قوى «الأقلية» في المزيد من التشدد وفرض الشروط للمشاركة في الحكومة على اعتبار أن مسائل «الأكثرية» والأقلية» قد فقدت معناها العملي. ستتبدى الصورة مختلفة تماماً عند النظر إليها من زاوية الموحدين الدروز، وهم طائفة لا امتداد بشريا لها في الوطن العربي إلا في بلاد الشام فقط (جبل لبنان ومحافظة السويداء في سورية وشمال فلسطين)، في حين أن طوائف لبنان الإسلامية الأكبر عدداً مثل السنة والشيعة لهم امتدادات في طول وعرض المنطقة العربية وخارجها وصولاً إلى إيران وتركيا. ويرتب ذلك أن السنة والشيعة لهم امتدادات أعمق وتحالفات أرسخ في المنطقة، في حين أن الدروز يظلون محكومين بتوازنات بلاد الشام التي تأتي سورية- بحكم الجغرافيا والتاريخ والسكان- على رأسها.

ومع قراءة سابقة لوليد بك من أن إدارة الرئيس بوش الابن في وارد تغيير النظام في سورية بعد احتلال العراق 2003، ثم اشتداد الضغوط على دمشق بعد اغتيال المرحوم رفيق الحريري 2005، فقد بدا لوليد بك أن التحالف مع واشنطن يضمن لطائفته دوراً في بلاد الشام ما بعد الزلزال الذي اعتبره هو مرتقباً. وهذا يفسر الغلو في مهاجمة النظام السوري والتشدد في مواجهة القوى السياسية المنضوية في تحالف الثامن من آذار، ومع انفتاح واشنطن الأخير على دمشق وتفكيك العزلة الدولية عليها بغرض سحبها بعيداً عن إيران، فقد أعاد وليد بك حساباته. وتوازى ذلك مع انفتاح مرتقب للرياض على دمشق بغية تعزيز التحول في تحالفاتها الإقليمية؛ وهو ما تصبح الترجمة العملية له متجسدة في تقارب سني-شيعي في لبنان، وبالتالي تفاهم بين «تيار المستقبل» و«حزب الله»، وهو ما سيفقد وليد بك بالمحصلة موقعه المتميز في التوازنات المرتقبة في لبنان.

كانت السياسة في معناها اللبناني الأضيق وسيلة تعزيز مصالح الطائفة في مواجهة الطوائف الأخرى، وفي معناها الإقليمي تحالف الطائفة مع قوى إقليمية لتعزيز مصالحها، وفي معناها الدولي سقف التحالف مع الرعاة الإقليميين بالمصالح الدولية وكل ذلك يتغطى بشعارات سياسية فضفاضة. ولأن السياسة بمعناها النظري والمعرفي هي الوسيلة الممتازة لتثبيت المصالح وإدارة التناقضات، فإن خطوة وليد بك الأخيرة تشي بأن مصالح الطائفة الدرزية التي يمثلها تتطلب تغيير المواقع التحالفية الحالية للتعامل مع ما هو قادم من تغيير إقليمي ودولي في توازنات لبنان. وبسبب عدم وجود «مرجعية إقليمية» للدروز على غرار السعودية وإيران لدى السنة والشيعة على التوالي، اعتمد وليد جنبلاط على تبديل المواقع باستمرار للحفاظ على وجوده السياسي وعلى وجود طائفته في قلب الموزاييك السياسي اللبناني. وهكذا يتحول «الحزب التقدمي الاشتراكي» بمقتضى انسحاب وليد بك من فصيل أساسي في «فريق الموالاة» إلى بيضة القبان بين فريقي «الموالاة» و«المعارضة».

ووفق هذا المقتضى لن ينضم وليد جنبلاط بالطبع إلى فريق الثامن من آذار وإلا فقدت خطوته مغزاها العميق وأصبح من جديد طرفاً في تحالف مقابل تحالف آخر، ولكنه سيسعى إلى البقاء في منطقة الوسط بين التيارين لتوسيع هامش مناورته اللبنانية.

يضرب وليد جنبلاط مثالاً واضحاً على براغماتية وبراعة سياسية قل مثيلها في لبنان وفي منطقتنا التي شهدت دوماً تصارع قوى وإرادات دولية وإقليمية ومحلية على قيادتها في الطريق الذي تريد. وإذ أخذ هذا التصارع الدائم بين العمالقة أشكالا عسكرية وسياسية واقتصادية وحتى ثقافية، فإن براعة الطوائف الصغيرة تكمن ليس في إلغاء وشطب الخصوم فهذا ما يفوق طاقاتها في الواقع، ولكن في البقاء على الدوام في الجانب العائم من السفينة وسط النوات والأعاصير والزلازل التي تشكل الخلفية الدائمة للحراك السياسي في لبنان والمنطقة. ربما ينبغي هنا استذكار التحولات في مواقف الطوائف اللبنانية الأخرى خصوصاً السنة والشيعة، وإن كانت هذه التحولات قد استغرقت عقودا لتستقر على ما هي عليه الآن، وذلك بسبب عدد هذه الطوائف الكبير من جهة وارتباطها الموضوعي بالرعاة الإقليميين من جهة أخرى. على النقيض من ذلك عدد الدروز القليل نسبياً (أقل من ربع مليون في لبنان) وانتفاء الظهير الإقليمي لهم يجعل تحولاتهم أكثر حدة ووضوحاً وفي نطاق زمني يعد بالشهور والسنوات القليلة وليس العقود مثل السنة والشيعة في لبنان.

تنعقد التحالفات السياسية في لبنان بغرض أن تنفرط لاحقاً، في حين أن لعبة «الكراسي الموسيقية» هي النموذج الدائم لتحولات طوائفه ومنطق تحالفاتها السياسية. صياغة عبارات التنديد وترديد الشعارات دائماً سهل ويسير في حين أن فهم أصول ما يجري صعب وعسير.

ومثلما بدأت معكم مقالاتي قبل عامين أختمها الآن بنفس المنطق والأرضية؛ فقد انطلقت معك عزيزي القارئ من أن فهم واستيعاب الديناميكيات يبقى، وأن الشعارات تتحول وتذهب مهما طال الزمن، فهذا منطق الأمور وأصول التحليل السياسي الموضوعي. تأسيساً على ذلك يمكنك التنديد بخطوة وليد بك واستذكار تقلباته السياسية وعدم ثباته على موقف وكل ذلك صحيح، ولكن تقليب النظر في تاريخ لبنان وطوائفه يشير إلى أن الثبات على حال ترف لا يملكه وليد بك ولا طائفة الموحدين الدروز التي يمثلها! مرة أخرى... إلى اللقاء.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top