ما قل ودل: رسالة حب إلى الكويت

نشر في 08-11-2009
آخر تحديث 08-11-2009 | 00:00
 المستشار شفيق إمام في كل اتصال تليفوني بمصر يطالبني أولادي وأحفادي بالعودة بعد طول غياب، وقد بلغ الشيب مني مبلغه، أتمثل قول ياسر بن عامر لأخويه مالك والحارث: (في الوعد الحق لطه حسين) «عودا إن شئتما أو اضربا إن شئتما الأرض العريضة، فأما أنا فمقيم، قد أعجبتني هذه الأرض فلست أعدل بها أرضاً أخرى، ورضيت بهذه الدار فلست أبغي بها بديلاً»، ولعله كانت له أسباب في حبه للأرض التي اختارها إلى جوار البيت العتيق.

التجربة الديمقراطية في الكويت:

وكنت أقول لهما القول ذاته وأضيف: ولمَ رحيلي عن أرض عربية غمرتني بفضلها طيلة ما يزيد على ربع قرن عملت فيها مستشاراً وخبيراً دستورياً أشاهد وأعايش تجربة ديمقراطية هي الأولى من نوعها في منطقتنا، أكتب عنها، ما لها وما عليها، وأحلل فيها ما يجري على الساحة السياسية من جدل ساخن حول تطبيق الدستور وتفسير نصوصه، وأختلف في هذا التحليل والتفسير مع خبرائها الدستوريين ومع إعلامها وقادتها السياسيين، والذين كانوا يتقبلون الرأي الآخر بصدر رحب؟

ولمَ رحيلي عن أرض عربية وجد قلمي فيها متنفسه الذي يكتب بكل حرية وبكل صدق وأمانة ويعبر عن كل خلجات النفس وهموم القلب، هموم مصر وهموم أمتنا العربية، حتى ضاق القلب بما يحمله من هذه الهموم فتوقف عن النبض في الحادي عشر من أغسطس، تاركاً هذه الهموم ليحملها وينوء بحملها من حملها معي حتى الآن من أبناء هذه الأمة ولتحملها كذلك أجيالها القادمة؟ ولكن كان في العمر بقية.

يقول المولى عز وجل: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً» صدق الله العظيم.

شكراً للدكتور رياض الطرزي

شاءت العناية الإلهية، أن يكون الأستاذ الدكتور رياض الطرزي، طبيب جراحة القلب والصدر العالمي موجوداً أمام باب المستشفى الصدري يهم بركوب سيارته مغادراً، عندما أصابني هبوط في الدورة الدموية، وأسرع أحد زواري بالاتصال به، فإذ به في بضع لحظات يحيط بي وثلة من ملائكة الرحمة لا يقل عددهم عن الثلاثين من الأطباء من كل التخصصات، ومن ممرضات وممرضين، كان الدكتور رياض قد ناداهم، بصوت ارتجت معه أرجاء المستشفى، وهو يقودني مع من كان يحضر منهم تباعاً، ولم تفلح كل المحاولات التي بذلها كل المحيطين بي في إيقاف هذا الهبوط في الدورة الدموية الذي وصل معه النبض وضغط الدم إلى الصفر، مما اضطر معه إلى شق صدري بمبضعه، من دون تخدير ومن دون تطعيم، ليسحب كتلة من الدم أحاطت بالقلب ومنعته من حركته العادية في الانفراج والانقباض، وكان هذا الدم ينزف من أحد الشرايين بعد عملية «القسطرة» التي كانت قد أجريت لي قبل هذا الهبوط بنصف ساعة.

قرار سريع وجريء لهذا الطبيب البارع والشجاع والمقدر لمسؤوليته في الحفاظ على حيان إنسان، شكراً للدكتور رياض وأكثر من أمثلة في الكويت، فإليه بعد المولى عز وجل، أدين له بحياتي أو ببقية من العمر إذا شاءت إرادة المولى.

ثقافة زيارة المريض

وكنت على موعد مع الموت بعد ذلك أكثر من مرة، وفي كل منها تمنيت الحياة، ولو لأكتب هذه الرسالة وحدها قبل موتي، اعترافاً بفضل الكويت وأهلها الذين أحاطوني بكل هذا الحب والتعاطف من شخصيات عامة بارزة، وكان بعضهم يزورني مرتين في كل يوم، وكنت في كل زيارة أضن بوقتهم ومسؤولياتهم الكبيرة التي أعرفها حق المعرفة وكان ردهم دائماً «لا تحرمنا هذا الثواب»، بل وجدت هذا التعاطف حتى من بسطاء المواطنين الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم، وعندما التقيت بأحدهم، ولم أكن أعرفه وأخذ يدعو لي بالشفاء، وأنا على فراش المرض بين يدي عزيز مقتدر، فسألت عنه الممرضة التي كانت تقف إلى جانبي، فأجابتني إنه يزور كل مرضى المستشفى ويدعو لهم بالشفاء، تلك الثقافة النابعة من قيم دينية وأخلاقية وتقاليد موروثة لدى العرب، والتي تغيب عن كثير من شعوب أمتنا العربية، ولكنها لاتزال جزءًا من التراث الإسلامي والعربي والإنساني الذي يحافظ عليه الكويتيون.

وفي حديث قدسي يقول المولى عز وجل «عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد كيف أعودك يارب، وأنت رب العالمين، فيقول الله عز وجل، مرض عبدي فلان فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدتني عنده...».

ودون تقليل من شكري وتقديري وامتناني للجميع، من زارني ومن أرسل باقة من الورد ومن اكتفى بالاتصال التلفوني، فإني لن أنسى اتصال أحد القيادات البارزة بي من سويسرا ليخبرني بأنه سوف يرسل لي طائرة خاصة مجهزة ومعدة إعداداً طبياً لنقلي من الكويت إلى كليفلاند لإجراء العملية الجراحية (القلب المفتوح) على نفقته، ومن طلب مني أن ترسل له فواتير مستشفى دار الفؤاد بمصر ليسددها، واعتذرت للاثنين، وكان ردي عليهما يكفيني ما غمراني به من حب وتعاطف.

والشكر والتقدير لإخواني وزملائي المصريين

وأختم رسالتي بما بدأتها، بأنها رسالة حب وتقدير إلى الكويت وأهلها وإلى إخواني وزملائي المصريين الذين يعملون في الكويت، بما غمروني به من عطف وتعاطف ومحبة أزاحت كثيراً من الهم عن قلبي في أن المصريين لايزالون بخير يتضامنون ويتكاتفون في المحن والملمات، وقد حرص بعضهم على تكرار زيارتي في المستشفى في الكويت وفي مصر، مضحياً بوقته القصير الذي يحرص على قضائه بين أهله وزوجه وأولاده خاصة في إجازاتهم القصيرة وبصفة خاصة في إجازة العيد.

الشكر لمصر للطيران

ولا يفوتني أن أوجه شكري إلى شركة مصر للطيران، وإلى طاقم الرحلة رقم 613 التي أقلتني يوم 20 أغسطس إلى القاهرة والاستعدادات التي كانت على الطائرة والرعاية التي أحاطوني بها، أثناء هذه الرحلة، حيث كانت تنتظرني في المطار سيارة إسعاف لتقلني إلى مستشفى دار الفؤاد.

وأعتذر إلى قرائي الذين كان بعضهم على اتصال بي طيلة فترة مرضي، وأعدهم بأن أعود إليهم وإلى قلمي وقرطاسي في الأسبوع القادم، إن كان في العمر بقية.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top