حوار المشرق والمغرب... صراعنا مع التخلّف
صدر حديثاً عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» وعن «منشورات الاختلاف» كتاب «حوار المشرق والمغرب»، ويحتوي على حلقات حوار بين د. محمد عابد الجابري (المغرب) ممثلاً المغرب ود. حسن حنفي (مصر) ممثلاً المشرق.جمع الحلقات، إضافة إلى ردود بعض المفكرين العرب، د. فيصل جلول.
تتفرع قضايا الحوار إلى عناوين أساسية تشغل العالم العربي، منذ بداية عصره الحديث، في مجالات الفكر والتاريخ والدين والمجتمع والسياسة. وهي قضايا لا تزال تتحدانا في حياتنا اليومية، وفي صراعنا مع التخلف، حيث أسئلة الحرية والديمقراطية متلازمة مع أسئلة العلمانية والحداثة والإسلام، وحيث علاقة الشعب بالدولة، والحاضر بالماضي، والمشرق بالمغرب، والنخبة بالسلطة، والتجزئة بالوحدة، كلها تتفاعل مع غيرها من خلال محاور اتسع تناولها بين المتحاورين ثم بين المتناقشين لما جاء في حلقات الحوار.يشير الدكتور جلول إلى أن هدف الكتاب تعميم النقاش حول مواضيعه وقد سبق لمراكز الدراسات والأبحاث الأكاديمية وغير الأكاديمية والأندية الثقافية وبعض الصحف أن تناولتها جزئياً أو كلياً، وثمة مؤلفات ومقالات كثيرة منشورة حولها، لكن السعي في هذا الكتاب تركز على تعميم مواضيع الحوار وتيسيرها ولفت الانتباه إليها، عبر إخراجها من الدوائر الأكاديمية وشبه الأكاديمية إلى دائرة أوسع طالما أنها في الأساس مواضيع غير تقنية وغير أكاديمية.يرى حنفي أن الأوان آن ليتجاوز هذا الجيل أحادية الطرف، والتكفير والتخوين المتبادلين، ففي الفكر والوطن متسع للجميع. فأشد ما أضر بنا هو حديث «الفرقة الناجية» المشكوك في صحته لدى ابن حزم الذي يكفر اجتهادات الأمة كلها، ولا يستبقي إلا واحداً هو اجتهاد الدولة القائمة. وهذا ما ترسب في وعينا القومي بتكفير فرق المعارضة كافة، واستبقاء اجتهاد واحد صائب هو اجتهاد السلطة القائمة، وهذا ما يتنافى مع تراث الأمة، ويجافي روح التشريع. ويلفت حنفي إلى أنه أحد محامد هذا الجيل أن يبدأ الحوار هذه المرة بين مفكرين، واحد من مصر والثاني من المغرب، ويتفادى الكاتب أن يقول بين مشرق ومغرب لأن هذه القسمة نشأت في حضن الاستعمار، تقطيعاً للعالم الإسلامي إلى إسلامي وعربي أولاً ثم تقسيماً للعالم العربي إلى مشرق ومغرب ثانياً. وجاء هذا الجيل ليغالي البعض في القطيعة، ودعا إلى خصوصية مغربية، عقلانية علمية طبيعية، في مقابل مشرق صوفي إشراقي ديني، ما يجعل المغرب أقرب إلى الغرب، والمشرق أقرب إلى الشرق. بالتالي تضيع وحدة العالم العربي واستقلاله باعتباره مركز الثقل في العالم الإسلامي، ويضيع استقلال المنطقة بعد أن يذهب نصفها إلى الغرب ونصفها الآخر إلى الشرق.يتابع حنفي أن الحوار الفكري هو مقدمة للحوار السياسي، والحوار بين المفكرين إنما يمهد الطريق للحوار بين القادة والزعماء. فالفكر يسبق الفعل، والتصور يأتي قبل الممارسة. وهذه ليست مثالية تعطي الأولوية للفكر على الواقع بل إنها عين الواقعية في المجتمعات التراثية التي ما زال فكرها بديلاً عن واقعها، وماضيها ممتداً فوق حاضرها. قوى رئيسةيعتقد حنفي بأن في الوطن العربي أربع قوى رئيسة لا بد من أن تتحاور في ما بينها. وهي في الوقت نفسه تيارات ثقافية، فالثقافة والسياسة في وطننا العربي يخرجان من المصدر نفسه. ومن هذه القوى السياسية والتيارات الثقافية يصدر المفكرون والأدباء ويخرج القادة والزعماء. وهذه القوى هي: الحركة الإسلامية التي تنبع من الموروث الإسلامي الأصيل وتمتد جذورها إلى ألف وأربعمائة عام، وقد جسدتها حركة الإصلاح الديني الأخيرة منذ الأفغاني وعبده ورشيد طه وحسن البنا وسيد قطب والكواكبي ومحمد إقبال وغيرهم عبر أربعة أجيال، وما زال الجيل الخامس يملأ الأرض صخباً محاولاً إيجاد صياغات للصحوة الإسلامية. أما القوة الثانية فهي الليبرالية التي بدأت منذ اتصالنا بالغرب الحديث منذ مائتي عام، وكان روادها الطهطاوي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد وخير الدين التونسي وابن أبي ضياف، وقد ازدهرت في المشرق العربي أكثر من ازدهارها في المغرب. وكان همها إنشاء الدولة الوطنية المستقلة القائمة على الدستور والبرلمان ومؤسسات الدولة ووسائل العمران الحديث في الزراعة والصناعة والتجارة.يضيف حنفي أن القوة الثالثة هي الماركسية، وقد نشأت في المشرق منذ بدايات هذا القرن قبل ظهورها في المغرب لدى الجيل الحالي، منذ سلامة موسى ولويس عوض وعبدالله عنان وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم. وأصبح لها رصيد فكري لدى قطاع كبير من المثقفين والأدباء، خصوصاً في المغرب ورصيد حركي لدى قطاع عمالي كبير في المشرق. والقوة الرابعة هي قوة القومية العربية أو الناصرية أو الاشتراكية العربية التي جسدتها الثورات العربية الأخيرة وتكمن وراء معظم الدول العربية الحديثة، وقد تبناها العسكريون، ونظر إليها المثقفون. فقد بدأت في الشام لدى حركة القوميين العرب، ودخلت كطرف ثالث بين الإسلام والوطنية فنشأ التعارض في الشام بين الإسلام والقومية أحياناً وبين القومية القطرية أحياناً أخرى فيما ظل الإسلام والوطنية مترادفين في مصر والمغرب العربي كله.أما محمد عابد الجابري فيؤكد أن قضيته الأساسية ليست الدفاع عن هذا التيار أو ذاك ولا إعلان الولاء لهذه الجهة أو تلك، بل إن قضيته التي يعتقد أنها قضية كل مثقف عربي في الظرف الراهن، هي البحث عن «نقط الالتقاء» التي تجعل في الإمكان وقوف الجميع في «كتلة تاريخية» واحدة لمواجهة المصير المشترك: مصير الأمة العربية والإسلامية ومصير الأمم المستضعفة أياً كان دينها وقوميتها، ذلك لأن القضية التي ستكون قضية الغد ليست أن تكون ماركسياً أو ليبرالياً أو سلفياً، بل هي أكبر من ذلك وأعظم. فالاختلاف الأيديولوجي أمر مشروع ويفرضه الواقع والمصالح ويجب أن يحميه القانون، لكن عندما تكون القضية المطروحة قضية وطنية قومية مثل النهضة والتنمية والعقلانية والديمقراطية والأمن الغذائي، فلا بد من حد أدنى من العمل المشترك، إذ ليس في القوى الاجتماعية المتصارعة إيديولوجياً، في العالم العربي، قوة واحدة تستطيع بمفردها إنجاز تلك المهام.يشير الجابري إلى أن عالم الغد سيختلف عن عالم الأمس، إذ سيشهد تعاون الكبار بدل تنازعهم وتصارعهم، ومن دون شك فإن ذلك سيكون على حساب الصغار والضعفاء. من هنا فإن القضية المطروحة علينا، نحن العرب وشعوب العالم الثالث، هي البحث عن سبيل إلى المناعة والقوة والمنعة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاتحاد. إذاً فالكتلة التاريخية مطروحة اليوم كضرورة حياتية على صعيد القطر الواحد وعلى صعيد الأمة الواحدة وعلى صعيد شعوب العالم الثالث كله.أما دور المثقف العربي اليوم، فيعتبر الجابري بأنه يتلخص في البحث عن سبيل لقيام كتلة تاريخية بين القوى الاجتماعية الحية والتيارات الأيديولوجية التي تنشد التقدم والتغيير في اتجاه تعزيز الكيان العربي وتوفير القوة والمناعة له. فقد عمد الكبار إلى نزع السلاح لإنقاذ البشرية من حرب نووية مدمرة، وهذا جميل، لكن الأجمل بل وضروري أن تقوم التيارات الأيديولوجية في الساحة العربية بنوع من نزع السلاح، أو تعليقه على الأقل بهدف العمل من أجل بناء الغد المشترك الذي يفرضه علينا كبار عالم اليوم. ولا يعني نزع السلاح في الميدان الأيديولوجي التخلي عن الأهداف ولا التنكر للمبادئ والأصول. ذلك يعني فحسب تجميد الصراعات الداخلية لمواجهة الصراع الأساسي لأجل البقاء، في عالم لن يكون فيه للضعفاء مكان.أما شكل الدولة في الإسلام فيرى الجابري أنه ليس أحد الأمور التي شرع الإسلام فيها، فقد تركها لاجتهاد المسلمين يتصرفون فيها بحسب ما تمليه المنفعة والمصلحة وبحسب مقاييس كل عصر. إذاً فالقول إن الإسلام دين علماني لا يختلف عن القول إن الإسلام دين غير علماني، فالعلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة.