ليل الكتابة وكتابة الليل

نشر في 15-06-2009 | 00:00
آخر تحديث 15-06-2009 | 00:00
No Image Caption
يستحوذ الليل على اهتمام شعراء وفنانين تشكيليين كثيرين، سواء من خلال الكتابة عنه أو التمتع بطقوسه وكائناته، ومن يراجع صفحات الكتب الأدبية يلاحظ أنه كان أكثر حضوراً من النهار ربما بسبب سكونه ونجومه وخفاياه ومسارحه وشياطينه. لنقل إن الشيطان يرتبط بالعتمة أيضاً.

اذا كان لكل كاتب طقوس في الكتابة، فالليل يأخذ حيزاً لدى كتّاب كثيرين حول العالم. يقول الروائي أدوارد سعيد إنه كان يصمت أشهراً أو سنين وفجأة يبدأ بالكتابة بسرعة وبدقة، إلى أن يتوقف فجأة مثلما بدأ، ومن طقوس كتابته أنه لا يكتب إلا في آخر الليل على مكتبه بالتحديد في بيته، حيث يكون محاطاً بكتب وصفها بـ»كائنات حية بيني وبينها حوار لا ينقطع».

كذلك يُحكى عن الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي أن الإلهام كان يأتيه عموماً في الهزيع الأخير من الليل، وكان يقيم مع أهله في واحة توزر، ويضطر إلى استخدام فحم الحطب كطبشورة ليلاً ليكتب بها على جدران الغرفة، حتى إذا جاء الصباح عمد إلى نقل ما كتبه إلى كراس. كان ذلك يتسبب في مشاجرات مع الأهل، لكن الشاعر كان يقول لهم إنه مضطر إلى التعامل مع العملية الإبداعية على هذه الشاكلة.

درويش

ذكر الشاعر الراحل محمود درويش أنه لم يكن يستطيع أن يكتب في الليل، ولا عندما تكون حالته النفسية متوترة جداً، أو مرتاحة جداً، ومن عاداته إنه يكتب في الصباح. لكن كيف «يكتب» درويش الليل، هل يخطّه كما سابقيه، لننظر في قوله:

وأنا أنظر خلفي في هذا الليل

في أوراق الأشجار، وفي أوراق العمر

وأحدّق في ذاكرة الماء، وفي ذاكرة الرمل

لا أبصر في هذا الليل

إلا آخر هذا الليل

دقات عمري تقضم عمري ثانية ثانية

وتقصر أيضاً عمر الليل

لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه.. وعليه

لكن الليل يعود إلى ليلته

وأنا أسقط في حفرة هذا الظل.

في التراث العربي، كان جرير يكتب شعره في أول الليل، وكان الأدباء القدامى أمثال ابن رشيق والجاحظ وابن قتيبة وابن خلدون أفضل من تحدث عن طقوس الكتابة وأوقاتها، فأجمعوا على أن أفضلها ساعة الفجر حين يكون الذهن أصفى والقريحة أنقى. لكن الزمان تغيّر وصار كل كاتب وكل أديب يتّخذ لنفسه طقساً معيناً لكتابة فيض إبداعه.

ولأن لليل حضوره المهيب يؤثر كثيراً بالمبدعين من شعراء وفنانين، وقد كان لشعراء الجاهلية في وصفه باع طويل، لا سيما أنهم سكنوا صحراء ممتدة بلا انتهاء يسترها سواد الليل. تكلموا عن صفرة الرمال وزرقة السماء ودكانة الليل: «وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي». وكان الشاعر الجاهلي يجمع الليل مع النار في ثنائية متلازمة، فقد كانت النار أداة يتغلّب فيها على الليل الذي يمثّل المتاعب والمآسي والمعاناة، فهو رمز الفرقة والظلمة والغربة والقهر، وكيف يبدد الشاعر هذه الظلمة؟ كان عليه أن يوقد النار التي أطلق عليها لقب «نار القرى» أعظم مفاخر العرب، وفي ذلك قال الشاعر الجاهلي عوف بن الأحوص:

ومستنبح يخشى القواءَ ودونه

من الليل باباً ظلمة وستورها

رفعتُ له ناري فلما اهتدى بها

زجرت كلابي أن يهرّ عقورها

ولم يتوقف الشعر عند «نار القرى». كان العرب إذا توقعوا خطراً وأرادوا الاجتماع أو الحرب أوقدوا ناراً على جبلهم ليلاً كي يبلغ الخبر، وفي هذا قال عمرو بن كلثوم:

ونحن غداة أوقد في خزار

رفدنا فوق رفد الرافدينا

وكتب الفرزدق:

لولا فوارس تغلب ابنة وائل

سد العدوّ عليك كل مكان

ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا

نارين أشرفتا على النيران

وهنا نرى أن النار أدّت وظيفة النجدة. أما أبو الطيب المتنبي فرأى في الليل رمز للرعب والبيداء، وقارنه بالخيل، لأن الأخير رمز القوة والعزيمة:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

بدور، اعتقد أبو فراس الحمداني أن الليل فرصة للاختلاء بالنفس والتفكير بهموم الحياة وانهمار الدموع للتفريج عن الألم، وقال:

إذا الليل أضواني بسطت يدى الهوى

وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر

مفهوم الليل لدى العرب بحسب إحدى الباحثات الأردنيات يدور في أقوالهم وأشعارهم حول مستويات ثلاثة هي الزماني والمكاني والدلالي، ويحمل بعدين: موضوعياً، يتمحور الليل حول معاني العتمة والظلام، ونفسياً يجسّد معاني الرهبة والخوف من الظلام. على أنه رغم طبيعته الصامتة يحمل في جوهره معنى الحركة والتغير، والتحول والفناء، والموت والحياة، لذلك ارتبط في فكر الجاهليين وأشعارهم بمفهوم الزمن، ومثلت الليالي وجه الزمان الباكي وأداته التي تفعل فعله. على أن الخوف من الليل له ما يبرره لدى الجاهليين، اذ ارتبط في عقليتهم بالشر والخوف من المجهول.

وفي الأدب الغربي كان الليل ملهماً لشعراء وفلاسفة كثيرين، وصوّر نيتشه وشوبنهاور رهبتهما منه، وكان دعامة لكثير من نظرياتهما الفكرية وتأملاتهما الميتافيزيقية. كذلك ثمة من يختار أوقات الليل لكتابة نصوصه. تقول الكاتبة الفرنسية كريستال إيجال: «أنا أعيش في نيويورك ولا أخرج في الليل أبداً. أسكن غرفة في قلب مانهاتن. أكتب بين الثالثة والخامسة صباحاً. يحدث أن أكتب أحياناً في مقهى، أو في قطار. أما اليوم، فأنا أكتب في الليل دائماً والتركيز عادة ما يكون تاماً. إنها الساعات التي يبتدئ فيها كل ما هو مهم بالنسبة إلي. في الليل أحسّ أنني في وحدة كاملة مع مشاعري وعواطفي وأفكاري. كذلك أحسّ أن العلاقة مع الحقيقة هي جد بسيطة. ويتيسّر لي أن أروّض العنف الذي يعتمل داخلي حتى لا يرتد ضدي».

خيال

كانت عائلة الروائي بلزاك بحاجة الى المال فأجبرته، وعمره بعد 15 عاماً، على ترك المدرسة والالتحاق بمكتب لأحد المحامين، رغم أنه لم يكن يرغب في العمل بهذه المهنة لأن ميوله كانت نحو الكتابة.

تعلم بلزاك من مكتب المحامي طريقة الكتابة في أوقات فراغه، ولما بلغ العشرين بدأ يعمل كمندوب لإحدى الصحف، وفي الليل كان كاتباً يسطر الحياة اللندنيّة، ونشر بعض قصصه من دون مقابل.

أما شعراء الرومنسية في أوروبا فقد وجدوا في الليل مرتعاً خصباً لخيالهم ومجالاً فسيحاً لأحلامهم، ومن بينهم: شللي، كيتس، وبيرون في بريطانيا، ولامارتيه، فيكتور هوغو، والفريد دي موسيه في فرنسا.

كتب الشاعر شللي في أحدى قصائده:

أمضي سريعاً أيها الليل فوق أمواج الغرب

واخرج من الكهف الملبد بالغيوم في الشرق

فعندما يخبو نور النهار الطويل

تنسج أحلام الفرحة والجلال

التي تجعلك رهيباً عزيزاً

****

جب أيها الليل فوق المدائن والبحر والبر

تلمس كل شيء بعصاك السحرية

فإنه تواق يبحث عنك

فعندما نهضت من نومي رأيت الفجر يتنفس

فأرسلت زفرة لأجلك أيها الليل

وعندما انتشر الضوء في الفضاء والتمعت الأنداء

انسكب النور على الزهور والشجر

ثم رقد النهار متعباً مكدوداً يستريح

يترنح كضيف ثقيل الظل

فأرسلت زفرة لأجلك أيها النهار

******

الموت يحجم عندما ينقشع النهار سريعاً سريعاً

والنوم يحلّ عندما يولي الأدبار

فممن ألتمس الصنيع وأرجو الجميل؟

أسألك أيها الليل الحبيب

أن تدنو سريعاً... سريعاً

أما لورد بيرون فاستمد أوصاف حبيبته من الليل فقال في قصيدته «تسير في الجمال»:

إنها تسير في جمال كأنها الليل المميز

يخطر دون سحائب، لماع النجوم

وكل شيء أبيض ناصع وأسود دامس

يجتمع في أهداب عينيها السوداء

كأنما تنتمي إلى النور الناعم الوديع

الذي تضن به السماء على الأيام الحالكة

وعندما تبدو في الظلال ينبثق منها شعاع

ذو جما تعجز عنه الأسماء

يتحرّك في الفضاء في وجه الأطيار

أو ينعكس في فتنة محياها

حيث تتراءى في الأفكار عذبة معبرة

فما أجمل حيث تكون هاتيك الأفكار!

back to top