الكبار... من اللعب معهم إلى الانتقام منهم!
يتميز فيلم «الكبار»، إخراج محمد العدل وتأليف بشير الديك، بتقديمه الشخصية الرئيسة كمال (عمرو سعد) بعيداً عن الأحادية أو النمطية وعن تقسيم البشر إلى خير خالص أو شر محض، فكمال هو الخير والشر في آن والأبيض والأسود معاً.إنه وكيل النيابة الذي يخطئ في حكم، فيظل ضميره يؤنبه بقسوة، ثم يتحوّل الجلد للذات شيئاً فشيئاً إلى نوع من اللامبالاة، أو «العند مع الذات» ومحاكاة الظالمين، فقد اكتشف بوضوح مرير أن الوطن منقسم بين «الكبار» الذين لا يكفون عن نهب البلد وتحقيق مصالحهم الصغيرة ولو على حساب الجميع... و{الصغار» أي الناس المستضعفون والمهانون، بكل ما للكلمة من معنى.
في هذه اللحظة من التفكير والمعاناة، يبدأ كمال بتغيير قناعاته، ويقرر التخلي عن مبادئه، والصعود بخطى سريعة في مجتمع طبقي، ليكون وسط الكبار ولاعباً معهم.يترك النيابة ويتحوّل إلى المحاماة ويعمل ضمن فريق المحامين لأحد الأباطرة أو الحيتان الذين يتمتعون بالثروة والسلطة، المقدرات والنفوذ، هو الحاج (خالد الصاوي)، فيصبح أحد رجاله المقربين، ساعياً وراء الشر في ركابه، على رغم علمه بأن الحاج يتاجر في صفقات مشبوهة بل مروعة، مثل صفقة الأدوات والأجهزة الطبية، التي تحمل مواد مشعة وتشكّل ضرراً على البشر والبيئة بسبب فرزها الخطر، وطمرها بطريقة غير صحيحة.لكن كمال لا يموت قلبه وضميره تماماً، فهناك صديق الطفولة (محمود عبد المغني) وأمه الجارة القديمة والصديقة الرائعة لأمه التي رحلت منذ زمن، وهو أحد الضباط الشرفاء الذين يطاردون الكبار بحمية وإحساس بالمسؤولية، على رغم الإعاقات التي يضعها رؤساؤهم ومن بينهم الحاج، وقد حذر كمال مراراً من السير في ركابه، ونشاهد في أحد أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها عذوبة، استضافة الصديق وأمه (عبلة كامل) لكمال بعد انقطاع طويل، فيتأثر الشاب بشدّة ويحنّ إلى زمن أمه والعلاقة القديمة الدافئة والراقية مع هؤلاء الجيران.في إحدى القضايا يتعرف كمال إلى فتاة (زينة) وهي بدورها وأمها الكفيفة (صفاء الطوخي) ضمن الصغار المطحونين والحيارى والمتذبذبين، على غرار كمال، الذين يتجاذبهم من ناحية الضمير الحي واختيار الحياة الشريفة ولو تحت وطأة الضعف والاحتياج، ومن ناحية أخرى الاستعداد ولو للحظات إلى التنازل والسقوط واختيار الحياة الوضيعة لكسب المال بأي ثمن. الفتاة شخصية مركبة أيضاً، تتجاذبها التناقضات والخير والشر، ربما لذلك تقرّبا من بعضهما البعض وتحابا، لكن عندما يطلب منها الزواج تبادره إلى القول على رغم ابتهاجها: «الظروف الآن تعاند، ولا نستطيع في هذا الهوان أن نسعد بحب أو نهنأ بزواج».وحينما يقرر كمال الاستجابة لصديقه أو بالأحرى لضميره ويترك الحاج بل ويساعد على كشفه، يكتشف هذا الأخير ما يعتبره خيانة من محاميه ومساعده المقرب، فتقع مواجهة دامية في النهاية، يحاول كمال عبرها استعادة نفسه وتوازنه، بل ويعبر عن انتقامه ونقمته من هؤلاء الكبار.برع عمرو سعد في دور رئيس آخر بعد «دكان شحاتة»، وبرعت زينة في دور رئيس آخر بعد «بنتين من مصر»، وأثبتا اكتسابهما نضجاً يخولهما تحمل مسؤولية بطولة الأفلام، بأداء دقيق وثقة متزايدة بالنفس.أما خالد الصاوي فحاول منح شخصية الحاج ملامح وسمات خاصة من أدائه وروحه، تبعدها عن النمطية المعهودة التي عرفتها نماذج الفاسد أو الشرير في أفلام انتقاد مرحلة الانفتاح وانحرافاته واستشراء نفوذ الرأسماليين ورجال الأعمال، تلك الأفلام التي يحسب للسينما المصرية تقديمها منذ بداية ظاهرة انحرافات سياسة الانفتاح في عام 1974.بدا «الكبار» امتداداً، لكن بروح 2010، لأفلام انتقاد الانفتاح ورجاله، التي شارك فيها مؤلف الفيلم نفسه، الكاتب المخضرم بشير الديك، بأفلام مبكرة مميزة، خصوصاً «سواق الأتوبيس» (1983) إخراج عاطف الطيب، «سكة سفر» و{الطوفان» وهما من كتابته وإخراجه.لا بد من الثناء على اختيار محمد العدل لهذا السيناريو الجاد، ليقدم به نفسه مخرجاً جاداً ومعنياً بقضايا حقيقية وجوهرية في المجتمع. وقد وفق، في الإجمال، في السيطرة على عناصر العملية السينمائية وتوظيفها للتعبير عن رؤية العمل الاجتماعية والسياسية والوجدانية، الواضحة المحددة، لا سيما اختيار الممثلين وإدارتهم، فعمرو سعد وزينة يؤكدان كما أسلفنا، تقدمهما في الأداء الجيد في هذا الفيلم، وعبلة كامل كضيفة شرف تقدم دوراً بارعاً أخاذاً لا ينسى.