من دولة موظفين إلى دولة منتجين
برأينا، أن ما شهدته قاعة عبدالله السالم في جلسة الخميس الماضي، من حوارات ساخنة، واتهامات متبادلة، وتناقضات داخل الكتلة الواحدة، لا يعدو كونه ظاهرة طبيعية، ورد فعل متوقعاً، واختلافاً مستحقاً، ونكاد نقول إنه مطلوب أيضاً، فعملية الخصخصة منعطف حاد وجذري، وقانون التخصيص ليس فقط قانوناً اقتصادياً بامتياز، بل هو -أيضاً وبذات الدرجة- قانون سياسي وبتفوق.وقد شهدت برلمانات العالم، عندما ناقشت التخصيص، ما شهدته قاعة عبدالله السالم وأكثر منه، وأعنف، بل إن تأخرنا في إقرار هذا التشريع والاتجاه أكثر من ثلاثين عاماً، قد ساعد على تلافي العديد من الأخطاء، وساهم في طمأنة العديد من المخاوف.
لسنا في صدد تحليل أهداف التخصيص والتدقيق في شروطه وآلياته وجدواه، وليس في طاقة هذه المقالة أن تستوعب ذلك، لكن من الضروري أن نذكُر ونذكِّر بمنطلقات أساسية ثلاثة:أولها: أن التخصيص ليس استراتيجية مستقلة، بل هو جزء من برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي، لا يبدأ بالتخصيص، ولا يقف عند حدود نقل ملكية المشاريع العامة، بل يتضمن سلسلة من المفاهيم والسياسات والإجراءات المتكاملة، تهدف مجتمعةً إلى ترشيد توظيف الموارد العامة.وثانيها: هو أن التخصيص ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو وسيلة للوصول إلى أهداف عديدة، تُقاس جدواه بمدى نجاحه في تحقيقها، ومنها: تحفيز المنافسة العادلة محلياً وتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني دولياً وزيادة المساهمة الشعبية في ملكية المؤسسات الإنتاجية والخدمية اجتماعياً.أما المنطلق الثالث؛ فيتمثل في دور التخصيص بمعالجة الاختلالات الرئيسية التي يعانيها الاقتصاد الكويتي، خاصة من حيث توطيد الأمن الاجتماعي بإعادة التوازن إلى تركيبة العمالة والسكان، من خلال اجتذاب المواطنين للعمل الحر والعمل في القطاع الخاص، والانتقال بمفهوم الوظيفة العامة من أداة لتوزيع إيرادات النفط إلى أداة للتنمية.وإذا كنا نأخذ على أعضاء مجلس الأمة المؤيدين لقانون التخصيص عدم نجاحهم في عرض مبررات التخصيص وحتميته وجدواه، وتبيان مخاطر وتكلفة الاستمرار في النهج الحالي القائم على هيمنة القطاع العام، فإننا -في الوقت ذاته- نسجل على النواب المعارضين إخفاقهم الكامل في طرح أي أسانيد مقنعة، ويبدو أن افتقارهم إلى هذه الأسانيد كان وراء محاولاتهم رفع الجلسة وتعطيل النصاب، وسبب لجوئهم إلى شعارات عامة مستعارة من احتجاجات قديمة، ربما كانت برّاقة قبل ربع قرن وأكثر. وتفسيرنا لإخفاق الطرفين "مع الفارق" في توضيح موقفَيهما، هو أن موقفهما في حقيقته واحد من الناحية الاقتصادية، فالكل قد وافق على خطة أحمد الفهد، والكل قد استحسن رؤية توني بلير، والكل يدّعي وصلاً بالقطاع الخاص، والكل يعرف أن التخصيص هو البوابة الرئيسية لتنفيذ الخطة، وتحقيق الرؤية، وتعزيز دور القطاع الخاص.السبب الواقعي والصحيح وراء اصطفاف أعضاء مجلس الأمة تأييداً لقانون التخصيص أو معارضةً له، هو الحسابات السياسية ليس إلّا، فمن المعروف أن الصندوق الانتخابي في الكويت تهيمن عليه "بدرجات مختلفة بين الدوائر الانتخابية"، بيروقراطية متضخمة ذات حراك نشيط ومؤثر في الشارع السياسي، وقد استطاعت هذه البيروقراطية أن توظف تنافس الحكومة والنواب، وتنافس الكتل السياسية على صندوق الانتخاب، لتقاوم التخصيص وتعزز مكاسبها الآنية على حساب التنمية والإصلاح.ولهذا، نلاحظ أن الحكومة ومجلس الأمة والقوى السياسية المختلفة كانت متوافقة ظاهرياً على رفع شعارات الإصلاح، بينما كانت متوافقة ضمناً وفعلاً على تأجيل قرار الإصلاح وعرقلة تنفيذه، مسايرةً لهذه البيروقراطية وحفاظاً على ودّها.أما الآن، فقد أصبح الإصلاح قضية مصير ووجود، لا تقبل المساومة ولا تحتمل التأجيل، مما اضطر الحكومة إلى أن تحزم أمرها، الأمر الذي شجع مجموعة طيبة من أعضاء مجلس الأمة على الوقوف بجانبها دون خوف من أن تتراجع عن عزمها، وهكذا، حظي قانون التخصيص بأغلبية مريحة في جلسة الخميس الماضي، وليس أدل على ادعائنا بأن الخلاف الأساسي بين مؤيدي التخصيص ومعارضيه في الكويت هو خلاف سياسي لا علاقة حقيقية له بالاقتصاد، من أن أكثر النواب حماساً للقانون، وأشد النواب معارضةً له، ينتميان إلى كتلة نيابية واحدة، لكنهما يمثلان دائرتين انتخابيتين مختلفتين.ومن زاوية أخرى، من الموضوعية والإنصاف أن نقرَّ بأننا نتفهم أسباب القلق الشعبي حيال هذا الموضوع، ولا ملامة -في اعتقادنا- على المواطن الكويتي في نظرته المرتابة إلى التخصيص بالذات، وإلى الإصلاح الداعي إلى تقليص الهيمنة الاقتصادية للدولة بشكل عام، فرغم التوصيات الدولية والمحلية بضرورة تنظيم حملة إعلانية لتشكيل رأي عام متفهم للإصلاح وأهدافه، متعاون مع إجراءاته وسياساته، نلاحظ أن الحكومة ومجلس الأمة والقوى السياسية، قد أهملوا هذه التوصيات، ولم يقوموا بأي محاولة جادة تصارح الشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية الراهنة، وتبين له ضرورات الإصلاح وتكلفته ومردوده، وتبدد مخاوفه من التخصيص وآثاره على العمالة الوطنية، وعلى الأسعار، وعلى البيروقراطية التي تشكل العمود الفقري للطبقة المتوسطة في الكويت.يُنقَل عن أحد أعضاء مجلس الأمة قوله: لو لم أكُن نائباً، لتمنيت أن أكون موظفاً في شركة سيجري تخصيصها، إذ لم يسبق في العالم كله أن حظي موظف أو عامل في شركة بمثل ما يقدمه قانون التخصيص من خيارات سخية.وبدورنا نقول: لأننا ناشطون سياسياً (إن صح التعبير)، نتمنى أن نكون نواباً لنؤيد قانون التخصيص باعتباره الجسر الذي يوفر للكويت سبيل الانتقال من دولة موظفين إلى دولة منتجين، مع كل ما يحمله هذا الانتقال من انعكاسات إيجابية على سلوك المواطن ودخله، وعلى حماية المال العام، وعلى تعزيز الممارسة الديمقراطية.