قلق الشاعر

نشر في 08-07-2009
آخر تحديث 08-07-2009 | 00:01
 زاهر الغافري وقف الشاعر ينتظر القطار لكي يلهمه الكتابة، قال: لن تأتي الكلمات طالما أقف هكذا مثل تمثال من رخام، ينبغي أن أتحرك، أن أحس بالضوء، أن أمشي في رواق طويل، أن أترك قدميّ تتنزهان وحدهما.

تحسّس الشاعر رأسه فوجده ثقيلاً، وعندما نظر في اتجاه القطار القادم، أحسّ أن عينيه فارغتان تماماً.

لأن الشاعر ما أن رأى الجموع الغفيرة النازلة من القطار، حتى تذكر مشهداً من فيلم قديم بالأبيض والأسود، تذكر مشهد القاتل الذي يرتدي معطفاً ويضع على رأسه قبعة، وهو ينزل من القطار، قال: لن أكتب إلا عنه، لكن الشاعر الذي وقف حائراً بين أحداث الفيلم، وما يراه الآن، أحسّ بالغضب، فقال: لقد خُدعتُ! كانت عينا القاتل في الفيلم، كعيني من أصيب بخيبة أمل.

أما هذا الذي ينزل الآن، فلا يبدو أن لديه ذرة ضمير.

قال الشاعر: هناك كان يمكنني على الأقل أن أفتح ممرّ استعارةٍ لصرخة القتيل، أو للموت أو للسفر.

عصفت في ذهن الشاعر عاصفة قوية، فقال:

تخونني الكلمات، إنها لا تريد أن تخرج إلّا بعد أن أدفع لها مقدماً، وأنا شاعرٌ موهوب لكنني مفلس، ثم تذكر الشاعر شيئاً، قال: لن تخرج هذه الكلمات، لكي أكتب عن قاتل، لقد كنتُ في السابق أكتب عن المقتولين عن الضحايا، فكيف إذن أكتب عن قاتل!

قال الشاعر: هبط الليل ولم أكتب شيئاً، لأعُد الى بيتي، ربما لو كنت بين الجدران، سأحس بالنعومة، والهدوء، هناك أستطيع أن أصبح أسطورة ضائعة في الرمل، هناك سيرتطم رأسي بليل المسافات وأنا وحيد.

هناك أيضاً يمكنني أن أصرخ، وأفكر بالرائحة البيضاء التي تشبه روائح الموتى.

وسأكتب قصيدة عن الصرخة، صرخة القتيل في الفيلم وأربطها برحلة القطار، ثم إن الضحية بالتأكيد سيكون ميتاً وبهذا أكتب قصيدة واحدة في هذه الموضوعات الثلاثة.

عاد الشاعر الى غرفته، وجد نفسه مُحاصراً، بالأفكار، وهو غير قادر على الكتابة. في زاوية الغرفة يقع سريره، المرتب بعناية فائقة، فكّر في المساحات البيضاء في الأوراق الموضوعة على الطاولة.

قال الشاعر: ينبغي أن أهدأ، إن وجودي في غرفةٍ كهذهِ أمر يبعث على القلق.

قال: فلتذهب الكتابة إلى الجحيم، تناول قنّينة النبيذ وصبّ لنفسه كأساً، مع الكأس السادسة أحسّ الشاعر أن حياته تجري على عكس ما يرغب ويشتهي، ومن دون أن يدري تقريباً، كمن يقوده أحد من يدهِ الى النافذة، صرخ يقول: إيزابيل، إيزابيل ارجوك لا تُعلّمي الحمام على الانتحار، غداً سأسافر الى الحبشة.

كانت صرخته عالية الى درجة انه لم يستطِع أن يقيسها، أرتدّ الى الخلف وانبطح في سريره، وأطفأ المصباح.

في المنام، قال الشاعر: لمَ كنتُ أُتعِب نفسي، ما كان ينبغي أن أبحث عن موضوعات للكتابة، لمَ لا أكتب عن الياسمين، عن الصبايا، بائعات الياسمين في منطقة البستان، ثم تذكر الشاعر أنه كان يشتري منذ زمن بعيد باقات الياسمين من الصبايا، الصغيرات هناك رغم انه لم يرَ شجرة ياسمين واحدة في المنطقة.

قال الشاعر: هذا هو الشعر، من أين يأتي الياسمين إذن! فكر وتذكر البحر القريب من البستان.

فكر وقال: إن الصبايا يأتين من جهة البحر، أَكُنَّ يقطفن الياسمين من أعماق البحر؟ فكر، وفكر وفكر في أيديهن اولاً وقال هذا موضوع للكتابة.

قال الشاعر: كنتُ أشتري الياسمين، وأذهب الى «الحرامل» قرية الصيادين، وهي ليست بعيدة على أي حال.

في الثالثة ما بعد منتصف الليل استيقظ الشاعر، ووقف أمام النافذة صارخاً: إيزابيل، إيزابيل، لقد وجدتُ موضوعاً، سأكتب عن بائعات الياسمين، وأرجوك مرة أخرى أن تكفّي عن محاولات الانتحار هذه.

ثم ذهب الى طاولته وبدأ يكتب... إلهامه كان بسيطاً، قصيدة لصلاح ستيته يقول فيها:

أيها الشاعر يا من يتدثر بالأرض

ها هنا ثيابك

مع عتبة الأيدي.

back to top