ثوري متردد يهبط إلى مصر

نشر في 24-02-2010
آخر تحديث 24-02-2010 | 00:01
إذا قرر البرادعي السير قدماً في ترشحّه للرئاسة، فسيجد عاملاً واحداً على الأقل في مصلحته: التوق الشديد إلى إحداث تغيير في مصر بعد ثلاثة عقود تقريباً تحت حكم مبارك.
 فوراين بوليسي حطّت الرحلة رقم (863) على متن الخطوط الجوية النمساوية في القاهرة قبل أيام، في رحلة قادمة من النمسا بعد تأخرها عن موعد الوصول بساعتين ونصف الساعة. انتظر حشد مهيب من المصريين في قاعة مطار القاهرة، وكان عددهم يتراوح بين ألف و4 آلاف شخص، وكانوا يترقّبون أخبار وصول الطائرة مع التلويح بالأعلام المصرية وترديد النشيد الوطني. كان الدكتور محمد البرادعي- المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحائز على جائزة نوبل للسلام، والمرشح الرئاسي المحتمل- عائداً إلى دياره.

تطرح عودة البرادعي مشكلة بالنسبة إلى حسني مبارك، الرئيس المصري البالغ من العمر 81 عاماً. يسود اعتقاد بأنّ مبارك يحضّر ابنه جمال لتولي رئاسة البلاد، على الأرجح خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2011، لكن في ديسمبر الماضي، فجّر البرادعي قنبلة إعلامية أدت إلى تعقيد خطط مبارك: يفكّر البرادعي في الترشح لرئاسة مصر، شرط أن تؤمّن الحكومة حملة انتخابية عادلة، وأن تراجع تعديلات مقيدة أجريت على بعض بنود الدستور المصري والتي تحدد اشتراطات يتعين توافرها في الأشخاص الراغبين في الترشح للرئاسة.

انتهت ولاية البرادعي الثالثة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 30 نوفمبر 2009، ومنذ ذلك الحين، عاش في فيينا، مقرّ الوكالة، وقيل إنه كان مشغولاً في وضع اللمسات الأخيرة على الأعمال غير المنجزة بعد 12 عاماً من العمل في الوكالة. في شهر يناير، أجرى مقابلةً مع صحيفة Foreign Policy، فتكلّم بإسهاب عن مسيرته المهنية في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتوسّع في الحديث عن مستقبله في السياسة المصرية.

كثر المشككون الذين اعتبروا أن عودة البرادعي ستقسم الشارع المصري بين مؤيد ومعارض. صحيح أن الحملة التي تحمل عنوان "مشروع البرادعي" فتحت موقعاً إلكترونياً شبه رسمي ومجموعة على الـ"فيس بوك" فيه أكثر من 60 ألف عضو، لكن كم شخصاً من هؤلاء الداعمين على الإنترنت سيتشجّعون على حضور حفلة الترحيب بالبرادعي- وبالتالي المجازفة بالتعرّض لهجوم الحكومة؟ يعبّر عمرو الشوبكي، الباحث المصري في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عن قلقه من الوضع قائلاً: "في مصر، توجد فجوة كبيرة بين الحياة الافتراضية الإلكترونية والواقع. يشارك عدد كبير من الناس في النشاطات على الإنترنت، لكن أغلبيّتهم لا ينزلون إلى الشوارع". حتى اليوم، على الأقل، تجاوز الحماس تجاه حملة البرادعي جميع التوقعات، تبيّن أنه ما من داعٍ للقلق من حصول أي هجوم حكومي، على الرغم من اعتقال ناشطَين في المعارضة، في حركة 6 أبريل، يوم الخميس. اعتبر حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن تأخر وصول رحلة البرادعي كان أحد أسباب الاحتشاد الكبير الذي حصل: "كان الأمر مفيداً لنا لأن الناس أدركوا أن المطار آمن. تمكّن الحاضرون في المطار من الاتصال بأصدقائهم وإخبارهم بعدم تدخل الأجهزة الأمنية".  كتب إيساندر عمراني، مساهم في صحيفة Foreign Policy ومعلّق في تويتر(@arabist)، تعليقاً عن الأحداث الحاصلة في مطار القاهرة الدولي؛ حاول الأمن المصري إقناع البرادعي تجنّب الحشود من خلال مغادرة المطار عبر بوابة كبار الزوار، لكنه رفض العرض. بحسب الحاضرين، لم يستطع البرادعي المرور بقاعة المطار بسبب عدد المحتشدين، لذا خرج من بوابة أخرى، ما منعه من إلقاء خطاب.

إذا قرر البرادعي السير قدماً في ترشحّه للرئاسة، فسيجد عاملاً واحداً على الأقل في مصلحته: التوق الشديد إلى إحداث تغيير في مصر بعد ثلاثة عقود تقريباً تحت حكم مبارك. في هذا السياق، قال سعد الدين إبراهيم، عالم اجتماع ومعارض مصري بارز: "لقد ملّ الناس وتعبوا من عائلة مبارك- ولا أعني بذلك الأب فقط، بل زوجته وابناه أيضاً- فهي سيطرت على السياسة المصرية لمدة طويلة. يتحلّى [البرادعي]، بقدر غيره، بكلّ ما يلزم لتولي المنصب الرئاسي... لكن السؤال الوحيد الذي يفرض نفسه هنا هو مدى قدرته على بناء أساس متين وبثّ الحماس في الشعب للتغلب على العوائق المتبقية".

في الواقع، إنها عوائق كثيرة، فالعقبات التي تمنع البرادعي من سحب بساط الحكم من عائلة مبارك لا تزال كثيرة، إذ يتعين على البرادعي، لتعزيز الزخم الذي حظي به أثناء الترحيب بعودته، أن يتخطّى عدداً من التحديات المخيفة: السلطة القمعية والقيود القانونية التي فرضها نظام مبارك، والطبيعة الهشة لمعارضي مبارك، وربما تردده الخاص في أداء دور فاعل في الحياة العامة في مصر.

تملك الشرطة المصرية ما يكفي من الأدوات لكبح مسار البرادعي في حال قرر متابعة حملته الرئاسية. قام إبراهيم الذي يعرف الاستراتيجيات القمعية التي يمارسها النظام منذ عقد كامل- آخرها في عام 2008 حين حكمت عليه محكمة مصرية بالسجن مدة سنتين بتهمة "التشهير بمصر"- بعرض مجموعة من الطرق التي يمكن أن يعتمدها النظام لتصعيب الأمور على البرادعي. قال إبراهيم: "أولاً، سيعمد النظام إلى إطلاق الشائعات عنه وعن عائلته. ثانياً، سيستعمل ادعاءات مفادها أنه غير ملامس للشؤون المصرية، وأنه كان خارج البلاد لفترة طويلة لدرجة أنه لا يعرف طبيعة الحياة في هذا البلد. أخيراً، سيستعمل طرق التهويل والتهديد ضده شخصياً وضد عائلته".

لكن الحكومة المصرية لن تكتفي باستعمال جهازها الأمني النافذ ضد المعارضة، بل ستستعين بمحاميها أيضاً. تنصّ المادة (76) من الدستور المصري بصيغتها الراهنة على ضرورة أن يكون المرشحون للرئاسة قد احتلوا منصباً قيادياً رفيعاً في حزب قانوني قبل سنة على الأقل من الترشح للرئاسة. بما أن المواطنين الذين يريدون تأسيس حزب مضطرّون إلى الحصول على موافقة لجنة يسيطر عليها الحزب الوطني الديمقراطي- وهو شرط اعتبره البرادعي "مضحكاً" في مقابلة له مع صحيفة "الشروق" المصرية المستقلّة- فإن نظام مبارك يتحكم بشكل كامل بالمرشحين للرئاسة، وعملياً لا يُعتبر البرادعي مرشحاً مناسباً. صرّح البرادعي لصحيفة Foreign Policy في يناير: "الدستور مكتوب بطريقة تمنعني من الترشح ما لم أنضمّ إلى حزب قائم، وهو برأيي أمر لا يمتّ للنظام الديمقراطي بِصلة".

لكن نظراً إلى ضعف حركة المعارضة المصرية، يبقى تحقيق أي نصر تشريعي أو دستوري أمراً مستبعداً جداً، فبعد الاقتراب من الممارسات الديمقراطية لفترة وجيزة، عام 2004 وفي أوائل عام 2005، سرعان ما عاد مبارك ليبسط سلطته على الساحة السياسية المصرية، ففرض سيطرة كبيرة على مقاليد الحكم مع تحصيل 88.6% من الأصوات خلال الانتخابات الرئاسية عام 2005، وكسب الحزب الوطني الديمقراطي 311 مقعداً من أصل 454 في مجلس الشعب.

كانت هذه النتائج بمنزلة ضربة قاسية على المعارضة المصرية. صرّح عمرو حمزاوي، باحث بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "لقد واجهت المعارضة مشكلة نقصٍ في الشخصيات الشعبية وفي الأفكار، ونقصٍ في كسب الشعبية بين الناخبين". أصرّ البرادعي على أنه سيحتاج إلى حلفاء أقوياء داخل الحكومة لتغيير الدستور، لكن في الوقت الراهن، يبدو أن جماعات المعارضة لن تتمكن من تحقيق النتائج المرجوة.

أدت الشروط التي فرضها البرادعي في الحياة المصرية العامة إلى تفاقم هذه المصاعب، فقد صرّح بأنه لن يترشّح للرئاسة ما لم تتم مراجعة الدستور المصري، وهو أمر رفضه نظام مبارك قطعاً قبل انتخابات عام 2011. لكن لم يتضح بعد ما إذا كان ينوي حشد دعم شعبي داخل مصر لتنفيذ تلك التغييرات. ذكر حمزاوي في هذا المجال: "برأيي، قد يكون الطلب [من مبارك] أن يغيّر قوانين اللعبة كشرط للمشاركة في اللعبة أمراً غير واقعي. يجب تبنّي موقف مختلف: يجب أن ننزل إلى الشارع لنناضل في سبيل ما نريده ونخلق زخماً وسط الناس ونقود حركة المعارضة، ثم نرى ما سينجم عن ذلك".

في مقابلة مع صحيفة Foreign Policy، في شهر يناير، أعلن البرادعي أنه يؤدي دور المجنَّد المحاصر في السباق الرئاسي في مصر، وصرّح بأنه سيكون سعيداً جداً بالانسحاب من الحياة العامة، لكن المقربين منه شجعوه على الترشح. قد يكون امتناعه عن إلقاء خطاب في مطار القاهرة- وهو أمر خيّب آمال مؤيّديه- مؤشراً آخر على تردده.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بمدى استعداد نظام مبارك لتوفير مساحة سياسية للبرادعي حتى يصبح عنصر تغيير داخل مصر، لكنه لن يصبح طبعاً شخصية ثورية بالمعنى الكامل للعبارة. ذكر حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أنه تكلّم مع البرادعي وأنهما اتفقا على حشد بين 20 و25 أستاذاً وناشطاً من أبرز الأساتذة والناشطين المصريين لمناقشة الخطوة التالية في حملته الحديثة العهد. في هذا السياق، قال نافعة: "أتمنى أن يكون هذا النقاش مفيداً بالنسبة إليه، وسيكون علينا أيضاً أن نفهم ما يمكن توقعه منه وكيفية تنظيم حملة للضغط على الحكومة ودفعها إلى تعديل الدستور".

هكذا تبدأ الحملة الرئاسية المصرية لعام 2011، وحتى لو كانت معظم نشاطات البرادعي تُنفَّذ من خارج نطاق الحكم، فإن عودته تعطي بعض الأمل في إجراء إصلاحات في عالم السياسة المصرية الذي لم يشهد أي تغيّر منذ فترة طويلة. قال إبراهيم: "سيُقدِم عدد كبير من المصريين المتأمّلين بالتغيير إلى دعمه، ويكفي أن يتمكّن على الأقل من رجرجة النظام".

* ديفيد كينر | David Kenner

back to top