الأديب محمد المنسي قنديل: يوم غائم في البر الغربي تصوِّر ثوراتنا المجهضة
محمد المنسي قنديل أحد أدباء السبعينات في مصر. تميّز منذ بواكير أعماله «من قتل مريم الصافي» (مجموعة قصصية) بأسلوب متميز يجمع بين الشاعرية والرقة والعذوبة والواقعية، ونال جوائز عدة. كذلك رشحت روايته الأخيرة «يوم غائم في البر الغربي» لجائزة البوكر العربية...عن أعماله وروايته الأخيرة التقته «الجريدة» في الحوار التالي.
لماذا تؤرقك فكرة الهوية دائماً وقد تجلّى ذلك بوضوح في «يوم غائم في البر الغربي»؟كان المصريون «كمّاً مهملاَ»، مجرد أرقام تموت في الحروب وحفر القنوات وإقامة المعابد. في زمن الرواية بدأت الشخصية المصرية تعيد اكتشاف نفسها وتثبت وجودها، وكانت مقولة مصطفى كامل الشهيرة «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً» على رغم المبالغة تؤكد على الهوية المصرية. لكننا اليوم عدنا لنكون كمّاً مهملاً، نموت في العبارات والحوادث والقطارات، نحرق الذكريات التي كانت تربطنا بهذه الهوية الموقتة، ونفقد رموزنا ونتحول إلى مادة طيعة من السهل التأثير فيها. كأننا نعيش في عراء قاحل لا يحيط بنا إلا الرماد.من هي عائشة في البر الغربي؟تمثل عائشة مرجعية الشرق الحضارية، وقد حاولت أن أجسد مفارقة بين عالمين مختلفين، العالم المصري الذي تمثله عائشة والعالم الغربي وحضارته الذي يمثله هوارد كارتر. وقد أرهقني سؤال لماذا كُتب لحضارتنا الانهزام، فيما تصرّ حضارة أخرى وتثابر للوصول إلى غايتها؟وهل اكتشفت الإجابة عن سؤالك؟أتعبتني هذه الرواية بكثرة الأسئلة التي طرحتها علي. عموماً، أعتقد أننا طبقات متراكمة من الحضارات، فرعونية ويونانية ورومانية ومسيحية وعربية. أحياناً، تحدث طبقة سمكية فرقاً، لكن هذا لا يمنع أن جذورنا تمتد إلى الفراعنة. هذا الماضي الطويل جعل الشخصية المصرية مثقلة بتجارب تعوقه عن مواصلة مستقبله والانطلاق. كذلك تتفوق التابوهات على الدوافع فتحد من إبداعنا وتعرقله، لذلك لم نقم بثورة سواء في الأدب أو السياسة أو الفن، كلها ثورات مجهضة أو ناقصة. نحن نعيش في ظل تاريخ من المبتورات.ماذا تعني بالتابوهات؟لا تنحصر في الجنس والدين والسياسة، فهي أيضاً كم النواهي والكوابح التي تعرقل أقدامنا بحكم تربيتنا المغلقة والعادات والتقاليد المترسخة فينا منذ آلاف السنين. نحن لسنا أحراراً، لكننا نعيش في عداء مع الآخر، نخاف منه ونخشاه. نخوض معركة مستمرة من الصراع، ربما لأن موقع مصر هو قلب العالم فكان قدرها أن تعاني الاحتلال طوال تاريخها أو أن الشخصية المصرية خاضعة ومستسلمة بطبيعتها. أضف إلى ذلك كله أننا نفتقر إلى كاتب شجاع يطرح أفكاراً جريئة يكسر بها حدودنا الضيقة، وحتى إن وُجد فإنه ينفي خارج العالم ويصبح منبوذاً من الناس والمجتمع.لكن المثقفين في العالم هم من قاد التغيير والثمن كان حريتهم؟عندما يصطدم المثقف بالنظام يكتب وثيقة انتحاره. السلطة في بلادنا مركزية وقبضتها غاشمة. مثلاً، عندما بشر الأنبياء في العالم برسالتهم، نزلوا إلى الناس يدعوهم إلى دينهم، إلا في مصر عندما أراد موسى التبشير بدينه أمره الرب بالذهاب إلى فرعون مباشرة. إضافة إلى ميراثنا الطويل من القهر والعنف والخوف الذي جعل المثقف المصري ينغلق على نفسه، ويبادل العالم الخارجي العداء.ما دلالة وجود الذئاب طوال الرواية?الذئاب في الأساطير المصرية القديمة هي فاتحة الأبواب، ودمها يبطل السحر ويفك الطلاسم ويخرج الكنوز المدفونة. أما في الواقع فنحن في مصر لا نعاشر إلا الذئاب، نحن حملان مستكينة مع الآخر ومتأسدة مع بعضها البعض. اتهمك بعض النقاد بأنك أقحمت فصل «أخناتون» على الرواية من دون ضرورة فنية؟كانت شخصية أخناتون تمثل تحدياً قوياً بالنسبة إلي. كتبت عنه مؤلفات كثيرة، وقد حاولت في جديدي أن أكتب شيئاً جديداً عن شخصية أسطورية بالغة القدم. وأعتقد أني فعلاً بعثت الحياة في المومياوات والآثار ودخلت عمق الزمن، رابطاً الحاضر بالماضي، بذلك عزّزت عمق الرواية التاريخي.ألا تعتقد أنك شوهت أخناتون عندما حاولت تقديمه بشكل جديد؟فصل أخناتون هو نزوتي في الرواية، وأخناتون كان شخصية حالمة ومطمئنة في عالم وحشي لا يمكنه أن يتقبل أحلام السلام والحب والإنسانية. إذ حوصر من أصدقائه وأقربائه وأعدائه كي يقتل نفسه، فكان لا بد من أن يموت ليعيش الكهنة بأفكارهم البالية وتقاليدهم الراسخة.هل ثمة ارتباط بين موت عائشة ومجد كارتر؟في بلدنا يموت كل ما هو جميل أو يُقتل، لأن وطنه حكم عليه بذلك. وعلاقة عائشة بكارتر مثل علاقتنا بالغرب، استغلال متواصل، هم يستخدمون الوسائل كافة للوصول إلى هدفهم ونحن مجرد حلم مجهض، حتى الذئاب التي حمت عائشة طوال حياتها أصبحت معادية لها. جسد عائشة كان قرباناً لأعظم اكتشاف في تاريخ البشرية وهو مقبرة توت عنخ آمون.أليس هذا إغراقاً في التشاؤم؟نعم، لأن تاريخنا مرهق. من المستحيل أن تعيش في مصر ومن المستحيل أن تعيش خارجها. إنها بلد قاس على أهله.لماذا يشغل التاريخ والجغرافيا حيزاً كبيراً في كتاباتك؟أعيش في التاريخ والزمن. وأعتقد أن الرواية الجيدة جغرافيا جيدة. لا بد من دراسة المكان لاختيار مكان متفرد واستكشاف عالم جديد وشخصيات وجنسيات وحياة وعرقيات وعادات وتقاليد مختلفة، ما يعطي زخماً للرواية. أصبحت الرواية الآن أحد مصادر المعرفة لذك لا بد من تحري الدقة والقراءة المتأنية وتوظيف هذه القراءات في نسيج الرواية.ماذا تكتب حالياً؟استكمل مشروع ثلاثية عن الطب بدأتها برواية «انكسار الروح» التي تحكي قصة طالب طب، ثم رواية حول طبيب في الأرياف أعكف على كتابتها راهناً، (أدوّن أيضاً ذكرياتي عندما كنت أعمل طبيباً في المنيا)، ثم الجزء الثالث عن طبيب في الخليج، وسأحكي فيه عن تجربتي في مجلة «العربي».ألم تشعر بالاستياء لأنك لم تفز بجائزة البوكر؟نعم. رأت لجنة التحكيم أن رواية عبده خال تستحق الجائزة لأنها تكشف عن مجتمع صامت وغامض.