ليلى بنت النيل... اليهودية التي أطربت العرب (10) ورد الغرام

نشر في 02-09-2009 | 00:00
آخر تحديث 02-09-2009 | 00:00
هكذا كان أنور مع ليلى، عملياً، سريع الحركة، سريع الخاطر، ولم تكن ليلى تمزح يوم عرضت عليه أن يخرج فيلم «ليلى بنت الفقراء»، فقد أيقنت عندما جاءها بخبر اشتداد المرض على كمال سليم، من حركته، من حديثه، من لهفته الشديدة أن ثمة شيئاً يهدف إليه هذا الشاب. كان وجدي مكشوفاً للذين عرفوه، واضحاً مثل كتاب مفتوح وطيب القلب أيضاً، يستطيع جمع كل الناس حوله على اختلاف مشاربهم وطبائعهم.

لم تكن ليلى تدري أن قولها لأنور بأن يخرج الفيلم، هو بداية الطريق إلى حياة أخرى، تختلف تماماً عن كل ما مرت به، وقصة أخرى تساوي عمراً بأكمله!

كذلك لم يكن الأمر بالنسبة الى أنور مجرد جملة عابرة مرت عليه مرور الكرام، بل ظل يفكر فيها، حتى عاد إليها في يوم آخر ليخبرها بأن الأستاذ كمال سليم رحل عن الدنيا، فجددت الكلام حول أن يخرج هو الفيلم، ووجد نفسه يصيح:

- إنت بتقولي إيه معقول؟

- أنا بتكلم جد. ليه ما تخرجشي الفيلم إنت؟!

- أيوه بس أنا...!

- ليه لا؟!

راح أنور يدور حول نفسه، فقد ظن في البداية أنه في اختبار من ليلى لتعرف مدى جدية تنفيذ الفيلم:

- أنا أخرج والله عال. وإنتي إنتي تقبلي؟

- ليه لا. إنت فنان، ولك خبره في المسرح والسينما، وأنا في رأيي أن المخرج لازم يكون ممثل أولاً، الإخراج إحساس مش كده ولا إيه!؟

- لا إيه. أقصد يعني إنتي تقبلي!

- يا سيدي أنا قبلت أهه. أنا اللي بقولك.

- يظهر إن أبواب السما انفتحت لابنك يا أم أنور. يا بركة دعاكي.

- اتوكل على الله.

ظل للحظات غير مصدق، فما كان يهدف إليه ويخطط له في رأسه، قرأته بسرعة مدهشة هذه الفتاة. وما كان يستعد لخوض معركة من أجله في ما بعد ستحققه ليلى له بسرعة.

طار وجدي من الفرح، كان الحوار بينهما كالحوار بين قط وفار، ومثلما كان وجدي ممثلاً في أفلامه التي اشتهر بها كان يعيش هكذا حياته، يكفي أن ينظر إلى أي إنسان تلك النظرة المتلهفة، المتمسكنة، المستضعفة، حتى ينهار هذا الإنسان ويلبي له كل طلباته.

كان شركاء وجدي في فيلمه الأول رجل أعمال معروفاً، وامرأة ثرية، فضلاً عن المخرج الراحل كمال سليم الذي كان سيدخل شريكاً بأجره. وعندما قالت ليلى ما قالت، طار إلى شريكيه يزفّ إليهما الخبر. لم يصدق رجل الأعمال، فرفع سماعة الهاتف وطلب ليلى:

- إيه الحكاية... صحيح إنتي وافقتي على أن أنور يخرج الفيلم؟

وبذكاء شديد ردت عليه ليلى:

- أنا اللي طلبت منه كده.

بهذه المحادثة الصغيرة، استطاعت ليلى أن تقدم لأنور خدمة عظيمة في حياته الفنية. أو كما قال بنفسه:

انفتحت لي أبواب السماء.

وضع وجدي في هذا الفيلم رأس ماله كله والذي يبلغ ثمانية آلاف جنيه، ففي تلك الأيام التي وصل فيها الإنتاج السينمائي المصري إلى ذروته، وارتفعت فيها أجور النجوم والفنانين إلى مستويات خرافية، وكان هذا المبلغ لا يساوي شيئاً في ميزانية الفيلم، فأجر ليلى وحدها اثنا عشر ألف جنيه.

الحب بلا رومنسيّة

بعد بضعة أيام ، دخلت ليلى أستوديو مصر لتصوّر الفيلم، وكان وجدي اتفق مع أميرة أمير، أرملة المخرج كمال سليم، على أن يخرج هو الفيلم، وأن نصيب المخرج الراحل سيكون محفوظاً، ولم يكن أمام السيدة إلا أن توافق وتشكره على كرم أخلاقه وحسن صنيعه.

في أول يوم تصوير ذبح وجدي خروفاً، ووزع لحمه على العمال، غير أن أمراً آخر لفت نظر ليلى، وأثار انتباهها تماماً. وهو علاقة وجدي بعمال الأستوديو، الفنانين، الفنيين، وبكل من يعمل في الفيلم.

منذ اللحظة الأولى كانت الحماسة مشتعلة بين الجميع، وكان مبعثها الوحيد تلك الروح التي سيطرت على الجميع. كان وجدي في بداية الفيلم شديد القلق، لكنه على رغم ذلك لم يتخلَّ أبداً عن مرحه، وحبِّه للجميع وأيضا صوته العالي وعصبيته، وأحياناً قلة أدبه!

راحت ليلى تراقبه من بعيد، وقلبها مغلق ولا سبيل إلى فتحه خصوصاً إذا كان من يشاغل القلب فناناً. كانت أحداث الفيلم خفيفة الظل، تحكي عن قصة الحب تنسج خيوطها على مهل بين فتاة الفقيرة وشاب الغني. ولو كان هذا الفيلم صوِّر قبل خمس سنوات من ذلك الوقت لاختلف إحساس ليلى من دون شك، لكنها الآن لم تعد فقيرة، بل واثقة بنفسها وغنية.

في أيام التصوير الأولى كانت ليلى مرتبكة، غير أن حيوية أنور امتصتها تماماً فنسيت قلقها وارتباكها.

مضت الأيام حتى تعطلت سيارة ليلى في أحد أيام التصوير، فجاءت إلى الأستوديو بسيارة أجرة، وفي تلك الأيام كانت السيارة شيئاً عزيزاً وثميناً، والذين يملكون سيارات قلة من القادرين. يومها انتهى التصوير في التاسعة والنصف مساء، فأرسلت ليلى عاملاً من الأستوديو يطلب لها «تاكسي» يوصلها إلى مصر الجديدة، فصاح أنور:

- تاكسي ده إيه؟ هتروحي لوحدك؟

- ودي فيها إيه ما أنا متعودة على كده. وياما رحت لوحدي قبل كده.

- بردون يا هانم إنت مع أنور وجدي.

ضحكت ليلى وقالت:

- خلاص أنا هقول لسواق التاكسي إني تبع أنور وجدي!

- الكلام ده مينفعش. الدنيا ليل والمسافة من الهرم لمصر الجديدة طويلة. إنت هتروحي معايا، أنا حاوصلك.

لم يكن وجدي يرجو، أو يعرض الأمر برقة، بل مقتحماً واثقا بنفسه لكن ليلى ترددت، كان خروج الفتاة مع شاب في سيارته، حتى ولو كان الهدف أن يوصلها إلى البيت، حدثاً لا شك فيه. لكن وجدي لم يعر تردّد ليلى أي اهتمام، وانطلق بها الى مصر الجديدة، وطوال الطريق كانا يتحدثان عن الفيلم، عن الأحداث، عن الشخصيات. دخلت السيارة طريق مصر الجديدة، وخفت حدة المرور وحركة المارة، وكان الليل جميلاً، والأشجار تصنع مع الجو لوحة أخاذة. وفجأة، كفّ وجدي عن الحديث، ولا تدري ليلى لماذا اضطربت في تلك اللحظة، ذلك أن صمته لم يكن أمراً عادياً، كان يحمل نذر راحة جديدة، وحياة جديدة، فهمست ليلى:

- مالك، سكت ليه؟

- ياسلام لو العربية دي فضلت ماشية بينا على طول لحد آخر الدنيا!

قال هذا والتفت إليها فضحكت.

أصول الحب

ضحكت ليلى وهي تشعر بالارتباك للمرة الأولى منذ زمن طويل، وها هو أنور وجدي يبدأ الغزل ولكن بأسلوب مختلف، فهل تتركه أم توقفه عند هذا الحد؟!

فوجدت نفسها تقول:

- يا ريت. الواحد فعلاً بيحتاج يرتاح بعد الشغل!

ضغط وجدي على «دواسة البنزين» فانطلقت السيارة وتجاوزت البيت، كان الهدوء عميقاً، وصوت السيارة يئز في جوف الليل، وقال كل منهما كلمة، ثم تناثرت منهما الكلمات بلا هدف، كانت تذوب في تلك السحابة التي أظلتهما فجأة.

همست ليلى:

- مش نرجع بقى؟!

ومن دون مقدمات أو تضييع وقت التفت إليها وجدي:

- يا سلام يا ليلى لو أتجوزتك وعشت معاكي على طول؟!

صُعقت ليلى، فما هكذا يكون الغزل، وعندما وقعت في الحب للمرة الأولى لم يفاتحها حبيبها في الزواج إلا بعد ثلاث سنوات، فللحب أصول، وللغزل قواعد، ولا بد من أن يكون أنور وجدي هذا مجنوناً. مؤكد كذلك. فهو لم يغازلها سابقاً أبداً، لم يقل لها كلمة توحي بأنه يحبها، فهذه المرة الأولى التي يخرجان فيها معاً، فهو طوال اليوم في الأستوديو وطوال الأيام الماضية لم يبادر بشيء ينم عن الذوق أو الرومنسية. لم يمتدح تسريحة شعرها مرة، ولا لفت نظره فستان جديد ارتدته، ولا توقّف أمام جمال الوجه. ثم يأتي اليوم بل الآن ليتمنى الزواج منها فوراً وبلا مقدمات!

- ياه، مرة واحدة كده؟!

كانت تسخر منه، كانت في دهشة من أمره، ولكنها كانت أيضاً مرتبكة فلم تعتد هذه الجرأة ولم يعاملها أحد سابقاً بهذا الشكل.

- وفيها إيه. هو ساعات ربنا يستجيب دعا الواحد!

قال هذا في صوت خافت رقيق، ثم انفجر فجأة تاركاً عجلة القيادة، رافعاً يده إلى السماء، صائحاً بأعلى صوته:

- يا رب يا رب تخلي ليلى مراد توافق تتجوزني.

لم تملك ليلى إلا أن تضحك، وتستشعر في لذة شديدة بخفقات قلبها مجدداً. ها هو حب جديد يقتحمه بلا استئذان، وها هما يضحكان معاً، لكنّ كلاً منهما كان موقناً على رغم النكتة أن الحديث جاد.

مأساة الأم تتكرّر

بدأت ليلى تفكر في الموضوع، عندما عادت إلى البيت دخلت غرفتها وجاءتها خالتها مريم بالعشاء الى غرفة النوم، فأكلت ونامت وفكرها مشغول بما حصل معها.

- كيف تصبح الحياة مع فنان؟!

- وهل تعيد مأساة أمها بالزواج من فنان وسيم تتهافت عليه النساء؟!

ما إن مضت بضعة أيام، حتى كانت قصة الحب بين أنور وجدي وليلى مراد أصبحت حديث الوسط الفني كله، ولما كان وجدي مكشوف الإحساس عاري العاطفة انفعالياً وصديقاً للجميع، فطبيعي جداً أن يلاحظ الجميع في الأستوديو من فنانين وفنيين وعمال أن ثمة قصة تنمو بين بطلي الفيلم الشابين.

تركت ليلى نفسها للعواطف بحرص، وكانت تحسب الحكاية بدقة شديدة. وأغضبها من دون شك أن وجدي فاتحها في الزواج مباشرة، من دون مقدمات، أو غزل، أو نظرة، لكنه، ومنذ صباح اليوم التالي، بدأ يغازلها، لقد تبدّل، أصبح إنساناً آخر، رقيقاً هادئاً فقد عصبيته، ازداد مرحاً، اتسع صدره للأخطاء، وفي اليوم التالي مباشرة كان أول شيء فعله أن أرسل إلى غرفة ليلى في الأستوديو باقة ورود.

اعتادت ليلى في البيت أن تصدر قراراً لا أن تأخذ رأياً، كانت هي ربة البيت، الحكيمة وهي الآن تملك من المال ما يكفيها ويقي العائلة مستقبلاً بعد أن أدت دورها، وإذا كان الفن مهماً لحياتها فإن أنور لن يمنعها من الغناء والتمثيل، لن يطالبها بالاعتزال كما فعل حبيبها السابق. وفي البلاتوه بدأت قصة الحب تأخذ شكلاً عملياً، راح كل منهما يتابع العمل في دأب ونشاط، وامتدت حماستهما إلى كل العاملين في الفيلم، أصبحاً يعملان يومياً ست عشرة ساعة. وينتهيان من التصوير ليشاهدا المشاهد التي صوِّرت بالأمس في صالة العرض بالأستوديو، ويتناقشان مع الجميع ثم يذهبان إلى قاعة التسجيل لأداء بروفة على أغنية أو سماع لحن جديد. لقد تحولا إلى نحلتين فتحوّل الأستوديو كله إلى خلية لا تكف عن العمل.

في كل صباح كان أنور يرسل الى ليلى باقة ورد الى غرفتها، ويومياً كانت تدب بينهما خناقات صامتة، ذلك أن أنور كان من النوع «معسول الفم» يستطيع أن يأخذ من الراقصة أو الممثلة ما يمكنه أثناء العمل حتى لو كان الثمن كلمة غزل، أو فرصة لا تخفى على عين ليلى الساهرة، وإذا كان أنور فناناً فهو أيضاً «شاطر» ومن الممكن أن تصبح الحياة معه جميلة.

بالمنطق وحده أقبلت ليلى على حبّها الجديد، أعلنت الأمر في كل حركة وأصبحت تعامله كخطيبها، ذهبت إلى البيت ذات يوم وأخبرت أباها بالأمر كله، فرحّب وزار معها الأستوديو في اليوم التالي. لم يكن ثمة وقت للخروج أو الإفصاح، فقد كان الفيلم يأخذ كل وقتها، وعندما زارها أنور ذات يوم في البيت، تم الأمر ببساطة شديدة، واستُقبل على أنه خطيب ليلى، وفي دقائق كان أنور يستولي على إبراهيم ومنير تحديداً، وأخذ عقل الأب بنكته وضحكه وخفة حركته، ولكنه أحب منير وإبراهيم حباً شديداً، فأحباه أيضاً، وأخلصا له تماماً. وذات يوم دعتها إحدى صديقاتها الى فرح الخادمة لديها، والتي أقامت لها فرحاً عظيماً في السيدة زينب، فذهبت ليلى مع أنور إلى بيت الفرح، فتجمّع حولهما الناس، وانطلق أنور في مداعبة السيدات والرجال على السواء، كان المعازيم يجلسون في الدور الأول، بينما الفرح مقام فوق سطوح المنزل، سمعت ليلى دقات العوالم فانقادت لها، صعدت إلى السطوح، واشتد فرح الناس وتزاحم الحضور ليشاهدوها. غنّت ليلى على موسيقى العوالم ولما كان المفروض أنها تعيش الآن قصة حب، فقد انطلقت تغني وتغني حتى مطلع الفجر.

زواج أمام الكاميرا وخلفها

ولأن أنور كان يفكر في كل شيء ويحسب حساباته بالورقة والقلم، ولا يترك شيئاً للصدفة، وكان ضمن سيناريو «ليلى بنت الفقراء» أن يتزوج البطل من البطلة في المشهد الأخير الذي كان من المفترض تصويره من خلال فرح كبير ضمن أحداث الفيلم، أحضر فستان الفرح، وجهّز كل شيء، وفي صباح اليوم نفسه الذي كان سيصوَّر فيه المشهد الأخير «الفرح» وجدت ليلى أنور يصر إصراراً غريباً على أن يُعقد القران، فذهب إلى بيتها ووسط العائلة عقد القران، ودعا العائلة كلها الى حضور اليوم الأخير لتصوير الفيلم ـ يقال إن أسرة ليلى ظهرت في هذا المشهد باعتبارها معازيم الفرح ـ وما إن بدأ تصوير المشهد حتى أعلن أنور لجميع من في الأستوديو أنه عقد قرانه على الفنانة ليلى مراد، وأنه سيتم الزفاف الآن في هذا المشهد الذي استمر حتى الساعات الأولى من الصباح، وانتهى التصوير الفعلي لفيلم «ليلى بنت الفقراء»، بزواج أنور وجدي وليلى مراد في السينما وفي الواقع.

أحدث زواج ليلى من أنور في تلك الأيام ضجة شديدة في مصر، ورحبت به الصحف ونسجت حوله الحكايات، فقد كان أنور فتياً وسيماً خفيف الظل، ونجماً محبوباً وله جماهيرية عريضة، أما ليلى فكانت تحولت مع الأيام إلى نموذج لفتاة أحلام شباب مصر، كانت دائماً تمثل دور الفتاة الطيبة المرحة التي تغني دائماً، وفي تلك السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت مصر تغلي، كانت أحداث كوبري عباس تلهب الوجدان الشعبي، والمظاهرات لا تكف والصراع الاجتماعي والسياسي يأخذ شكلاً جاداً، كان الإحساس بالقهر عاتياً في صدور الناس، وعندما عرض «ليلى بنت الفقراء» نجح نجاحاً شديداً، كانت قصته تدور حول حب بين فتاة فقيرة تسكن في حي السيدة زينب، وضابط غني أرستقراطي تقف العقبات الاجتماعية والطبقية في طريق حبهما، غير أن الحب ينتصر في النهاية.

ومع قصة الحب بين ليلى وأنور وكل ما نسج حولها من قصص وأخبار توافد الناس على دور السينما ليشاهدوا الخيال السينمائي الذي تحول إلى حقيقة، والبطل والبطلة اللذين أحبا بعضهما على الشاشة، وحوّلا هذا الحب إلى حقيقة.

وكعادته لم يضيع أنور وقته، وفوراً، راح يجهز لإنتاج فيلم آخر يستغل فيه نجاح الفيلم السابق، لم يكن متردداً هذه المرة، فقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، واختار للفيلم الثاني القصة نفسها، مع تغيير طفيف وهو أن البطل أصبح صحافياً فقيراً، والبطلة «ليلى بنت الأغنياء».

back to top