تعويضات بغداد للكويت... فلنجعل العراقيين يحبوننا
في رواية «الأمير الصغير» للروائي الفرنسي أنطوان دو سانت اكزوبري يدور الحوار التالي بين الثعلب والأمير الصغير:قال الأمير الصغير: جئت أفتش عن الأصدقاء.
رد الثعلب: يشتري الناس كل احتياجاتهم من المتاجر، وبما أنه لا وجود لمتاجر تبيع الأصدقاء، فإنهم يعجزون عن شرائهم ويشعرون بالوحدة، إذا أردتني صديقاً... فروِّضْني.فسأله الأمير الصغير: ما معنى روِّض؟فأجابه الثعلب: يعني اجعلني أحبك.قال الأمير: وكيف أفعل هذا؟أجاب الثعلب: عليك أن تتحلي بالصبر، الكثير من الصبر.قد تصلح «الحكاية» مدخلاً للسجال الدائر بشأن العلاقات الكويتية - العراقية، من زاوية المطالب العراقية بإلغاء الديون الكويتية، والتنازل عما تبقى من تعويضات أقرتها الأمم المتحدة، بناء على ضغوط شديدة من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة باعتبارها أداة ضغط على نظام صدام حسين القائم في العراق آنذاك، ويعتقد العراقيون الآن أنها باتت تثقل كاهلهم، وتعطل مسيرة التنمية في بلادهم، خصوصاً في ظل الأزمة المالية العالمية.الموضوع ملتبس في الكويت، ويكتنفه بعض الغموض، فهناك مخاوف حكومية من فتح الموضوع خشية ردود الفعل في مجلس الأمة، لجهة ربط إسقاط الديون العراقية وإلغاء التعويضات بمشروع إسقاط قروض المواطنين، الذي قسَّم البلد، وهو اقتراح لا يمتلك أي شرعية، عدا عدم منطقيته، وانتهى إلى صندوق المعسرين.أما الحكومة فهي مطالَبة بموقف واضح ورسمي وحاسم، وعليها الدفاع عنه، لحسم هذه القضية، التي تتعلق بالأمن القومي الكويتي، ويجب ألا تترك الموتورين من بعض نواب مجلس الأمة يقودون السياسة الكويتية، من أجل مصالح قبلية وانتخابية، وتقديم تضحية لكسب الجار العراقي، بإيجاد حل يخفف العبء عنه، عبر حوار هادئ، إما باستثمار هذه الديون في بغداد أو إسقاطها، لأن عدم استقرار العراق سيعني حتماً قلقاً دائماً للكويت.وحتى في لغة المصالح، يمكن اعتبارها ديوناً معدومة أو مسمومة... كما يسمى في لغة الاقتصاد، وفي هذه الحال، تعمد البنوك في مواجهة مثل هذه الأوضاع الى إعادة جدولتها، عبر تسوية مالية، وفي الوضع الكويتي - العراقي، على الكويت أن تعيد جدولتها «إنسانياً وسياسياً»، لكسب ود الجانب العراقي، سِيَّمَا أن الكويت أول دولة عربية تنشئ صندوقاً للتنمية الاقتصادية العربية، وليس جديداً عليها دعم الدول العربية. ويمكن تفهم الإشارة إلى المثال الألماني، كما كتب الصحافي البريطاني روبرت فيسك، الذي وصف الكويت بالبخل (stingy)، والخسارة المالية التي تكبدتها هذه البلاد بموجب معاهدة فرساي (إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى)، عندما تبيَّن أن فرض التعويضات على ألمانيا عند نهاية الحرب لم يحقق نتائج عملية من ناحية السداد الفعلي، بل أدى فقط إلى زيادة أشكال التوتر والتطرف والعداء بين الدول.ولم يكن غريباً في مثل هذه الأجواء أن ينجح الدكتاتور هتلر في الانتخابات الألمانية بأكبر قدر من الأصوات، ما دعا رئيس الجمهورية إلى تكليفه تشكيل الحكومة، وكان أول أعماله تمزيق معاهدة فرساي وإلغاء التزامه بالتعويضات مع البدء في الإعداد لحرب جديدة للانتقام من إذلال الحلفاء للشعب الألماني.ذهبت ألمانيا النازية إلى الحرب وهُزمت مرة أخرى، لكن الحلفاء كانوا قد وعوا الدرس، فحرصوا على عدم فرض أية تعويضات على ألمانيا المهزومة وإنما، على العكس، جاء مشروع مارشال لإعادة بناء ألمانيا وأوروبا، التي أصبحت الحليف الأكبر للولايات المتحدة. وكما يقول الكاتب المصري حازم الببلاوي لافتاً إلى الموضوع «هذا ليس كرماً ولكنه سياسة وبُعد نظر».لعل المشكلة، من جهة سياسية أيضاً، أن الكويت وفقاً لدبلوماسي غربي «لا تزال تعتقد أنها في وضع الطفل المدلل، وعليها أن تُسلِّم أن هذه المرحلة انتهت، وينبغي بعد عشرين عاما أن تكبر، وتعتمد على نفسها، فالطرف العراقي تغير، الواقع السياسي تغير، ودخل كثير من المتغيرات».ويمكن الإضافة أيضاً، أن الحكومة العراقية تتحول ديمقراطياً حقيقة، عبر الأفعال لا الأقوال، وأثبتت حكومة المالكي أنها استفادت من التجارب، ولا بد من دعم العراقيين والأخذ بيدهم ومساعدتهم للتخلص من الماضي، وبالطبع لا يمكن قبول لغة الابتزاز التي يستخدمها بعض الموتورين في الجانب العراقي، والالتفات إلى لغة العقل والقلب أيضاً. يكفي التذكير أن العلاقات الكويتية - العراقية التي كان الكثيرون، خصوصاً في الجانب العربي، يرون أنها وصلت إلى طريق مسدود، وتحتاج إلى عقود لترويض العقول والقلوب، عادت إلى التطبيع فوراً بعد سقوط نظام صدام، بسبب الإرث التاريخي، والعلاقات العائلية والعشائرية بين البلدين. ويفترض أن يفهم الطرفان، وبعد تجارب طويلة ومريرة، أن العلاقات بينهما، وتنميتها والحفاظ عليها، أفضل وأكثر حكمة، وهي الاستثمار الناجح، بدلاً من السباق المحموم لاستقطاب الجانب الأميركي وكسب وده بأي ثمن... وسيظل البلدان جارين مهما حصل، وسيحتاجان إلى بعضهما على الدوام، ومن مصلحتهما الوصول إلى وفاق متين، والبدء في حوار يُؤمِّن حلولاً لجميع القضايا والملفات المعلقة بين البلدين.عودة إلى حكمة الأمير الصغير، عندما قال للثعلب: لكن قل لي ما معنى الترويض؟قال الثعلب: هذا أمر قد تناساه الناس، ومعناه إنشاء العلاقات.وتساءل الأمير الصغير: إنشاء العلاقات؟فأجاب الثعلب: نعم، إذا روَّضتني، أصبح كل منا في حاجة إلى صاحبه.