مع الجميع فقط

نشر في 26-03-2010
آخر تحديث 26-03-2010 | 00:01
 أحمد مطر في ليلة ما، يخرج هذا الشخص الذي لا نعرف اسمه ولا ملامحه ولا عمره، ليتسكّع في أحد شوارع المدينة، واضعاً يديه في جيبَي بنطلونه، ومنطلقاً في حال سبيله بلا دافع أو غاية.

يرى في أثناء تسكّعه رجالاً يحاولون كسر باب محلّ تجاري بعتلة حديدية، فيتوقف ويراقبهم بعض الوقت، وحين يتأكّد من أنهم لم يفلحوا في كسر الباب يمضي، بكل أريحية، لمساعدتهم في ذلك... ثمّ لا يتردد- بعد أن يتمّ كسر الباب- عن إمساك الكيس لهم كي يضعوا فيه المسروقات.

وعندما يخيّل إليهم أنّهم سمعوا وقع أقدام في الخارج، يكلّفونه بالذهاب إلى آخر الشارع للتأكد ممّا إذا كان رجال الشرطة قد أقبلوا.

وبانضباط جندي ينفّذ التكليف، وهناك يلمح أفراد عدة من الشرطة مختبئين في ظِلّ أحد الأبواب، فينضمّ إليهم، ويعلم أنهم يراقبون أولئك اللصوص في المحلّ الذي جاء منه، فلا يلبث أن ينطلق معهم لمحاصرة المحلّ، ويدخل مع بعضهم للمساعدة في القبض على اللصوص!

لكنّ اللصوص ينجحون في الهرب، فيهرب معهم، وحين يتمكن أحد رجال الشرطة الذين يطاردون اللصوص من محاذاته، فإنّ صاحبنا يواصل الركض إلى جوار الشرطي، مستكملاً وإيّاه، هذه المرّة، مطاردة اللصوص!

وبعد مدّة من الجري الحثيث، يكون رجال الشرطة قد تفرقوا في جميع الاتجاهات، راكضين في أثر اللصوص الذين ذهب كل واحد منهم في ناحية، ثم لا يلبث صاحبنا أن يجد نفسه يجري لوحده.

عندئذ يتوقف وهو يتصبّب عرقاً، ثم يضع يديه في جيبَي بنطلونه، ويواصل تسكعه منفرداً، بلا دافع أو هدف!

هكذا تنتهي القصّة مثلما بدأت، ونحن في دهشة من انسيابية مفهوم «التضامن» لدى هذا الشخص، إذ ينتقل تضامنه، بمرونة الزئبق ومن دون مسوّغ، من اللصوص إلى رجال الشرطة، ومنهم إلى اللصوص، ثم إليهم مجدداً، ثم إلى لا أحد، إذ يترك الجميع، ويعود إلى السير في حال سبيله كما كان!

وإذ أعود من هذه القصّة ضاحكاً، فإن غصّة قاسية تغلبني، حين أتأمل واقع حال الدول العربية، فأراها كلها- بإزاء أهم قضايانا- نسخاً رديئة مسحوبة بالكربون من صورة ذلك الشخص المتضامن.

وإذ يبدو ذلك الشخص، في القصة، خارجاً من ضباب الغرائبية وداعياً إلى الضحك، فإن شخصيات هذه الدول الخارجة من بياض الواقع الجليّ والمُستَفِز، تبدو داعية إلى الذعر والقنوط.

مثلاً، هي كلها متضامنة مع القضية الفلسطينية، وهي في الوقت نفسه حريصة على عدم تعكير مزاج إسرائيل حتى بمواساة كاذبة لأصحاب المأساة!

وهي كلها متضامنة مع نضال الشعب الفلسطيني، لكنها في الوقت نفسه متعاطفة جداً مع الضحايا الإسرائيليين.

وهي كلّها ضدّ بدعة إنتاج وإعادة إنتاج «كرزاي» للعراق بيد أميركية على نمط كرزاي الأفغان، في «انتخابات» هي أسوأ من «الانتخابات»، بينما هي في معظمها كرزايات أميركية تأليفاً وتلحيناً وإنشاداً بالانتخابات أو بالانتخابات الأسوأ منها!

وهي كلّها متضامنة مع الشعب العراقي «الكامخ» في محنته بين «الشاطر» القادم من وراء البحار، و»المشطور» القادم معه كي يجثم، بلصوصيته كلها ودمويته وفساده، على صدر الشعب العراقي، لكنها في الوقت نفسه متضامنة مع الشاطر من جهة، ومع المشطور من جهة ثانية، ومع جميع الشطار والعيارين المنطلقين من حدودها لتوزيع بركات النسف على ذلك الشعب، من جهة أخرى «بفتح الهمزة»!

وأمام مثل هذه الدول الغرائبية المتضامنة من فوق ومن تحت ومن الجهات الأربعين مع الثلج والنار معاً، يحق للمرء أن يصرخ متسائلاً: ما لون هذه الدول؟ ما جنسها؟ ما قضيتها؟ ما غايتها؟ ما موقعها من الإعراب أو الأعراب؟!

وما موقف هذه الدول أمام شعوب عدّتها ثلاثمئة مليون إنسان، بعد أن لخصت لها ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعبأته في كبسولة نصف قطرها «خميس خمش خشم حبش» ونصفه الآخر «حبش خمش خشم خميس»؟!

أكاد أسمع قهقهة الأقدار تلطم سمعي ساخرة: شعوب عدّتها كم؟ أكرمنا بسكوتك يا أخا العرب... القطعان نائمة، لعن الله مَن أيقظها، لا تعكر هدأة الليل، فليس في الشارع سوى العسكر واللصوص، وما بينهما هذه الدول الهلامية المبتلاة بعاطفة التضامن الحارقة.

دعها تمارس تسكعها وتوزّع عاطفتها وهي خالية من أثقال الملامح والهوية والموقف والخطة والغاية، ولا بأس من أن تدعها- في أثناء تسكّعها- تضع أيديها في جيوبها مثل ذلك الشخص المرسوم بالممحاة في قصة كالفينو. إنها تحتاج إلى هذا أكثر منه... إذ لا بد لها في جميع الأحوال من أن تدفع التكاليف بعد كل مطاردة!

• شاعر عراقي

back to top