معجم الهادي في المترادفات والمتجانسات لجولي مراد... هواء جديد لرئتي اللغة العربيّة
طالما أنّ اللغة كائن حيّ وتتغيّر دلالات مفرداتها بحسب الاستعمال النصّي والشفهيّ مع مرور الأيّام، فإنّ العمل القاموسي ضروريّ وفائق الإلحاح استجابةً لتبدّل أحوال اللغة وحرصاً على استمراريّة أفضل، ودُعيت اللغات ألسنة لأنّ الكلام يؤخذ عن اللسان إلى القاموس وليس العكس، فمن هنا نجد الحاجة ماسّة إلى مواكبة نشاط اللسان اللغوي ورصد كلّ متغيّر وإثباته في منتج قاموسيّ.لا شكّ في أنّ أمّهات القواميس هي إحدى ركائز اللغة الأولى، غير أنّها تعرّضت لاجتياز لغويّ كبير، فاستعمالات الكلام النصيّة أثّرت إلى حدّ بعيد على مستوى الدلالة، وكذلك تعاطي البشر مع لغتهم عبر الزمن نتجت منه تغيّرات وتحوّلات هي أكثر من لافتة من حيث الدلالة أيضاً، فـ{كتاب العين} و{لسان العرب} و{تاج العروس} تبقى مراجع أولى لكلّ باحث لغويّ، غير أنّها لم تعد كافية، وهي من حيث الحجم والضخامة تفتقر إلى العمليّة، ما يعني أنّها على صعيد الطلاّب لا يُرجَع إليها، وأمست القواميس والمعاجم الحديثة تؤمّ مكتبات المدارس والبيوت، ذلك لسهولة عرض موادّها بمنهجيّات متطوّرة وحديثة، ولصغر حجمها ومواكبتها التحوّل اللغوي عبر الزّمن.
في سياق نشاطها الكتابي المتعدّد، أصدرت الكاتبة والباحثة جولي مراد جديدها {معجم الهادي في المترادفات والمتجانسات}، وميزتُه أنّه عصريّ – إذا جاز التعبير – بكلّ ما للكلمة من معنى. فهو يعتمد التبويب الألفبائي، ويمتاز بالاختصار الوافي، على غنى في إيراد المترادفات التي لا يجرؤ كثيرون على اعتبارها مترادفات على رغم أنّ الاستعمال النصيّ والشفهي يبيح ذلك. فالباحثة مراد تعاطت مع اللغة بانفتاح، بعيداً عن كلّ أصوليّة لغويّة، وأصدرت معجماً عمليّاً، يكتسب صدقيّته من استعمال الناس اللغة، مبتعدة عن إيراد الشواهد الجمليّة تاركة للقارئ، أو الطالب الباحث، تركيب جملته لتأليفها بعفويّة عند عثوره على المرادف للكلمة التي يريد.تشير مراد في مقدّمة معجمها إلى أنّ المكتبة العربيّة تملأ المعاجم اللّغويّة رفوفها، لكنّها لا تزال تشكو حاجتها إلى قواميس تعطي المترادفات لسدّ حاجة الطلاّب. ويُشار هنا إلى أنّ الإقرار، اليوم، بوجود المترادفات يتطلّب جسارة، إذ إنّ فئة كبيرة من أهل اللّغة والبحث في شؤونها وشجونها تعتبر أنّ المرادف غير موجود، ولكلّ كلمة دلالة خاصّة بها لا تشاركها فيها كلمة أُخرى، إلا في ما قلّ وندر، وعليه، فإنّ كثيرين يتجاهلون نموّ اللّغة، ويغضّون الطرف عن أنّ الإنسان العربي اليوم لا يستعمل اللغة مثل طرفة بن العبد أو الجاحظ أو الفيروزبادي...فكلّما خطا الزمن إلى الأمام سقطت مفردات من شجرة اللغة ونشطت مفردات أُخرى، وتلاشت فوارق دلاليّة وحضَرَت دلالات... تكمن أهميّة ما أتت به مراد في أنّها تجرّأت على الإقرار بالتحوّل فقرّرت مواكبة العصر لغوياً وقدمت إلى القارئ العربي، والطالب تحديداً، معجماً حياً، ليس فيه مفردات جثث، يكفّنها الغبار، وليس لأيّ لسان شهيّة الوصول إليها نطقا.لغة حيّة أصعب ما يواجه الطالب في التعبير الكتابي، والشفهي أيضاً، تجنّب تكرار مفردة معيّنة، وهو من خلال معجم المترادفات يهتدي إلى ضالّته، ويكسب غنى قاموسياً يساهم أيضاً في تطوير فكرته التي يريد تجسيدها بالكلام، وكم من فكرة تذبل على بساط الخاطر وتموت لأنّها لم تجد مفردات مناسبة تعطيها القدرة على الحياة والحضور. وتعلن مراد أنّها لم تكن تهدف إلى تجميع أكبر عدد من المترادفات، وقد أعطت كلّ مفردة ما لها من حضور ترادفيّ. فكلمة {دِين} لها مرادفات كثيرة: {ديانة، معتقد، ملّة، نحلة، شريعة، مذهب}، هذا عدا المرادفات ذات الدلالات الأُخرى، مثلا: {وَرَعٌ، خشوع، تقوى}، و{شأن، حال، عادة، دأبٌ، ديدنٌ}. بينما كلمة {دَين}، أوردت لها مراد مرادفين: {قرضٌ، سلفة}. وكم تكثر الشواهد في معجم الهادي التي تثبت رحابة صدر مراد، ومعرفتها العميقة في اللغة، وفي استعمالها القديم والحديث، وقدرتها على اختيار المرادف بدقّة، وهذه الدقّة تمنعها من إيراد ما لا يُقبَل مرادفاً، وواضح أنّ المعجم المراديّ روجع أكثر من مرّة وتعرّض لزيادة وحذف ولم يكن وليد وقت قصير، لأنّ البحث عن المفردات ذو عناء كبير لا يعرفه إلا الذين غامروا وخاضوا تأليف المعاجم والقواميس. ولم تخفِ مراد الصعوبة التي واجهتها في تنظيم معاني المداخل، وذلك لأنّ المترادفات والمتجانسات توصل أحيانا إلى أكثر من معنى، إذا تمّ الرجوع إلى الاستعمال النصّي، ومثالاً أوردت مراد الفعل {أباح} الذي يعني بدلالته الأولى: {أحلّ، أجاز، أذن، سمح، أتاح، سوّغ}... بينما يختلف معناه في جملة {أباح السرّ} لتتحوّل دلالته إلى {أفشى، أعلن، أذاع}...دلالات ومفرداتولاحظت الباحثة مراد أيضا أنّ مترادف الفعل يتعرّض لتغيّر دلاليّ غالباً، لا سيّما عندما يتعدّى الفعل بحرف جرّ، ومثالاً على ذلك أوردت الفعل {أتى}، وهو في دلالته الأولى يعني: {جاء، قدم، أقبل، حلّ ورد، حضر}... بينما يختلف معناه في حال تعدّيه بحرف الجرّ (الباء)، فـ {أتى به} يعني: {أحضر، جلب}... و{أتى عليه} يعني: {أهلكه، أباده، أفناه، أماته، قضى عليه}... ويتّضح لمتصفّح المعجم الهادي شيئاً فشيئاً أنّ اللغويّة مراد ذات نفس طويل في البحث، وطاقة تجعلها تقلّب المفردة على أكثر من وجه محاولة الوصول إلى الدلالات الممكنة كافة، وكان بإمكانها تجاهل الكثير من أوجه المفردات الدلاليّة، لا سيّما أنّ معاجم حديثة كثيرة سلكت طرقا أسهل، غير أنّها لم تستطع الوصول إلى ما وصلت إليه مراد وقدّمت مادّة ناقصة، ومعلومات مضطربة. فمعجم مراد نتيجة بحث لم يتجنّب العناء والتعب وصاحبه يملك المعرفة التي هي أساس لكلّ إنجاز ناجح.غابة مفردات تترامى على امتداد المعجم المراديّ، وعاشق اللغة يحلو له مطاردة المفردات من سطر إلى آخر، ولأنّ المفردات مكتسبة شرعيّتها وحقيقتها من الحياة ولسان الناس الحيّ فهي تطالَع بشهيّة وتأخذ مكانها في الذاكرة وتكون حاضرة بجهوزيّة تامّة عند تأهّب المرء للكلام والتعبير، فكم هي متعة عند المهتم لغويّاً وأدبياً حين يصل إلى باب {الجيم}، وتطالعه كلمة {جاحدٌ} ويقرأ من مترادفاتها: {كافر، ملحد، منكر}، وكم من الكلمات تدلّ على أفكار، وتذكّر بأقوال، وتفتح باب الذاكرة على مخزون أدبي ومعرفي. وما يساعد على ذلك كله إدارة مراد ظهرها للكلمات التي فقدت شرعيّة التداول وإثباتها الكلمات التي تطرق باب الخاطر صباح مساء.وإذا كانت الباحثة مراد في مقدّمة معجمها رمت إلى مساعدة الطلاب وإغناء رصيدهم اللغوي، فإنّها قدّمت لهم مصرفاً لغويّاً يمنح ولا يقرض ولا يبغي الربح. ووضعت بتصرّفهم كتاباً هو مساعد ومنقذ حقيقي يعلمهم علم اليقين بأنّ اللغة العربيّة فائقة الثراء، وجواهرها المعجميّة قريبة المنال.{معجم الهادي في المترادفات والمتجانسات} كتاب أصيل في كلّ مكتبة بها مشتهى أن تبقى اللغة العربيّة على قيد الحياة... والجمال. ومرّة أخرى تثبت جولي مراد أنّها تحترف النجاح كيفما برت قلمها الخصب.