فخري صالح في قبل نجيب محفوظ وبعده... متى تَعْبُر الرواية العربيّة إلى لغات العالم؟
الرواية كائن لغويّ حديث، نسبيًّا، لدى العرب، ولا شكّ في أنّ رصد مسارها منذ البدايات نشاط نقديّ ضروريّ وذو فائدة كبيرة لأنّ في التحوّلات التي طرأت على الرواية دلائل ومؤشّرات للتحوّلات الاجتماعيّة الإنسانيّة أيضًا، فالنصّ الروائي بعض من بطاقة هويّة مجتمعيّة إذ إنّه يستمدّ حضوره، غالبًا، من نبض الحياة بكلّ ما فيها من تناقضات وثنائيّات مبنيّة على التعارض الدائم.في مقدّمة جديده النقديّ «قبل نجيب محفوظ وبعده» يعلن الباحث فخري صالح أنّ الرواية، اليوم، هي النوع الأدبي الطاغي على قوائم دور النشر عالميًّا. ويعلّل انتشار الرواية شرقًا وغربًا، بلا منازع، بأنّها الأقرب إلى الحياة اليوميّة، وبأنّ قرّاءها يتقمّصون شخصيّاتها، إضافة إلى أنها تستطيع التعبير عن الإنسان في وطأة الحياة المعاصرة المعقّدة، فالسَّرد يصل إلى ما لا يصل إليه الشّعر بالاستعارة والتجريد. ولا ينفي صالح أنّ النّوع الروائي نشأ «على حواف الشّعر والملحمة، لكنّه، بطاقته الخلاقة، استطاع أن يكون جماع الأنواع والأشكال والناطق باسم حياة الإنسان المعاصر».
يربط الباحث، مشدّدًا، بين الرواية والتاريخ ويراها تاريخًا موازيًا للبشر، ويعتبر أنّ التاريخ المعاصر لا يمكن أن يتجاهل الرواية لما فيها من حقائق ووقائع وأسرار و: «عالم يموج في القاع لا يستطيع سوى روائي موهوب أن يكشف لنا عنهُ». وعليه، فإنّ ما كتبه نجيب محفوظ عن مصر المعاصرة يفوق بأهمّيّته السّرد التاريخي في الصحافة والكتب التاريخيّة. ويعترف صالح بأهميّة القراءات الشكليّة والبنيويّة والتفكيكيّة واللسانيّة والسيميائيّة... إلا أنّه يرى: «تحوّلات النصّ الروائي العربيّ في مكان آخر»، ولا يمكن رصد هذه التحوّلات بعيدًا من: «علاقة الرواية بسياقها وعلاقتها بالقارئ»، للوصول إلى حيث يلتقي فعل الكتابة بفعل القراءة. من هنا تبرز أهميّة بداية القراءة من النصّ نفسه مع الانتباه إلى صاحب النصّ وسياق الإنتاج ومن يقرأ. توقّف الناقد فخري صالح في أبحاثه الروائيّة العربيّة التي ضمّها «قبل نجيب محفوظ وبعده، عند عدد لا بأس به من الروائيّين العرب متعقّبًا مسار الرواية العربيّة. ورأى أنّ توفيق الحكيم (1898-1987) قد هيّأ المناخ الروائيّ لنجيب محفوظ و: «وضع الرواية العربيّة على مفترق الطريق». ولرواية الحكيم الأولى «عودة الروح»، المكتوبة بتأثير ثورة 1919، فضْل نقْل الرواية العربيّة من زمن البدايات والتلعثم الروائي إلى عالم الرواية الناضجة. واستطاع يحيى حقّي في رواية «قنديل أمّ هاشم» أن يجعل الأرض الروائية ذات خصوبة قراءة وتأويلاً، وقدّم منتجًا فنيًّا مغايرًا يتميّز بإتّقان الحيل السرديّة إذ يتمّ الانتقال من زمن إلى زمن، على تباعُد وتداخُل، بعيدًا من أيّ اضطراب في البناء الروائي. ومع حقّي بدأ التعبير الروائي يتخلّص من البلاغة القديمة الضيّقة إلى بلاغة العصر الحديث الحيّة المتّسعة لكلّ جديد.في مبحث تحت عنوان «ما بعد نجيب محفوظ» يُظهر صالح محفوظ في رواياته عينًا ثالثة مفتوحة تتمكّن من رصد داخلي للمجتمع المصري في القرن العشرين، بموضوعيّة تتّصف بالصرامة تعيد تمثيل الحدث الاجتماعيّ والسياسيّ وتحوّلات المجتمع االمصري العميقة. ومحفوظ أهدى إلى الرواية العربيّة نُضجها، وأوصلها إلى الحضور العالميّ، بنيله جائزة نوبل للآداب عام 1988، وجدّد لغتها: «مازجًا» لغة الحياة اليوميّة باللغة المثقّفة المتعلّمة الراقدة في بطون الكتب»، ولم يحوّلها كتاب تاريخ بابتعاده عن الوعظ والتبشير حين يلتزم تسلسل الأحداث والتحوّلات، وأطلق شخصيّاتها حرّة تعيش نزواتها وأفكارها ومسالكها الحياتيّة الخاصّة. الرواية والتاريخأرّخ الروائي عبد الرحمن منيف للقمع في ما كتب من الرواية، ولجأ إلى التخييل الروائي كاتبًا تاريخ الجزيرة العربيّة والعراق، وشرق المتوسّط. وحاول في رواية «مدن الملح» البحث في سير الأفراد والمجموعات والأمكنة المغيّبة عما يشكّل بعضًا من العَصَب الروائيّ. ويتّضح من مسار الرواية العربيّة أن الروائيّين والمؤرخين يتبادلون الأدوار أحياناً لتحضر «الرواية التاريخية»، وأن الروائيين يجمعون موادّهم التاريخيّة ويقيمون عليها الأبنية الروائيّة، كما فعل أمين معلوف، وعبد الرحمن منيف، ورضوى عاشور التي استعادت في «ثلاثية غرناطة» تجربة الموريسكيين من التاريخ بعد سقوط غرناطة بيد القشتاليّين... بدأت الرواية العربيّة تدريجاً تأخذ من التاريخ ما يستطيع اكتساب بعد رمزيّ، ففي «باب الشمس» يستعين الياس خوري بالحكايات الفلسطنيّة الشخصيّة جاعلاً إيّاها مادّة روائيّة، ويلتحم الراوي/ الروائيّ بالمرويّ عنه وله. وفي رواية «أبناء القلعة» يقيم زياد قاسم عالمًا بموازاة التاريخ، وينشغل: «بالحفر في المكان وتأثيثه بالشخصيّات»، ويقدّم تاريخًا سرديًّا لكلّ متحرّك في السياسة والاجتماع والثقافة.مع الروائي مؤنس الرّزاز صارت الرواية في الأردن على خارطة الكتابة الروائيّة العربيّة، وقد ظهر الرزاز متمكّنًا من النصّ الروائيّ، مقحمًا فيه حرارة تجربته الشخصيّة، مصرًّا على تمزيق الشكل الروائي وتطعيم الرواية بلغات عدة. أمّا عن الرواية الفلسطينية فمحورها احتلال إسرائيل فلسطين وتهجيرها أهلها. وفي هذا السياق طرحت الراوية الفلسطينية السؤال عن الوجود والهويّة، لا سيّما مغ غسّان كنفاني، وجبرا ابراهيم جبرا، وإميل حبيبي. ويرى الباحث صالح أنّ روايات كنفاني ظلّت: «بطاقتها التجريبيّة اللافتة وبحثها في غنى الأشكال النّوعي وقدرتها على تجسيد الأفكار والتجارب، تعبيرًا خلاّقًا عن الحلم الفلسطيني وابتكار الهويّة». ولم تحضر الحرب الأهليّة اللبنانيّة فحسب في الروايات اللبنانيّة، إنّما أخذت حضورها اللافت لدى أكثر من روائي عربي، نظرًا الى حضور بيروت الخاص بين العواصم العربيّة. ومن هؤلاء الروائيّين العرب الذين حملوا على بساط رواياتهم الهمّ اللبناني، بأبعاد سياسيّة واجتماعيّة، مؤنس الرّزاز في «أحياء في البحر الميت»، والياس فركوح في «قامات الزّبد»، وليانة بدر في «عين المرآة». ويتّضح من خلال عرض صالح وتحليله الروايات العربيّة، ذات الهمّ اللبناني، أنّ كلّ روائي أطلّ على المشهد اللبناني من نافذة خاصّة جدًّا، وقد لا تكون تسمح بالرؤية الكافية، ما يعني أنّ الحقائق التاريخيّة والواقعيّة قد لا تكون كافة ومرضية للموضوعيّة في بعض النّصوص، وذلك استنادًا إلى التّداخل السياسي والديني والاجتماعي في الحرب اللبنانيّة، وإمكان الحياد صعب جدًّا حتّى لدى روائي غير لبناني يروي الحرب اللبنانيّة على طريقته الروائيّة. على المستوى العربيّ ربط الباحث صالح بين: «زلزال الخامس من حزيران 1967» وبين تطوّر الكتابة السرديّة في القصّة واالرواية، ولم ينفِ أنّ التجارب الروائيّة العربيّة قد وصلت قبل «الزلزال» إلى أن تكون حُبلى بإمكانات التغيير رؤيةً وتقنيّةً بعدما: «بدأ التململ في طرق المقاربة والرؤية الفنيّة والمحمول الفكريّ الأيديولوجيّ قبل عام الهزيمة بسنوات». يُذكر أنّ الرواية العربيّة حاولت استشراق الآتي في الستينيّات، مع صنع الله ابراهيم في «تلك الرائحة»، ونجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النّيل»، واستطاعت العين الروائيّة التقاط حالة الاستعصاء السياسيّ العربيّ ورصد الأزمة التي يعانيها النظام الناصري...بعد قراءة صالح للطيّب صالح في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» خلُص الباحث إلى أنّ الروايات العظيمة تتناسل، وعليه، فإنّ «موسم الهجرة» للروائي السوداني هي: «إعادة كتابة مبدعة لرواية «قلب الظلام» للروائي البريطاني الجنسيّة، البولندي الأصل، جوزف كونراد». في نهاية كتابه ردّ الباحث صالح أنّ نقل الرواية العربيّة إلى لغات العالم الحيّة لا يزال ضعيفًا، لأنّ العرب ضعفاء في حضورهم السياسي والاقتصادي على مستوى العالم. في «قبل نجيب محفوظ وبعده» لاحق فخري صالح الرواية العربيّة من محطّة إلى محطّة، ودلّ على متغيّراتها بنية ومضمونًا، وقدّم لائحة لا بأس بها من الروائيّين العرب قارئًا رواياتهم بخلفيّات نقديّة، مستنتجًا ملاحظات دقيقة بشواهد نصّيّة.