الانتخابات الشجاعة لا تداوي خلل العراق

نشر في 12-03-2010
آخر تحديث 12-03-2010 | 00:01
في العراق أُرجئت القرارات الصعبة مثل حلّ وضع كركوك إلى ما بعد الانتخابات، ولهذه الأسباب، يخشى كثيرون أن تقوم الانتخابات بتعزيز الخلل القائم بدل تصحيح نقاط الضعف هذه.
 ذي ناشيونال  باستعراض عدد من المؤشرات على أقل تقدير، سنرى أن الانتخابات الوطنية التي جرت في العراق يوم الأحد سارت على نحوٍ جيد، صحيح أن عشرات المدنيين قُتلوا ولازم عدد كبير من العراقيين منازلهم خوفاً من حصول اعتداءات على مراكز الاقتراع واشمئزازاً من الطبقة السياسية الجديدة التي لا تحظى بثقتهم، لكن لم تنتشر موجة عنف عارمة لإخافة الناخبين كما كان متوقعاً، فعلى عكس انتخابات عام 2005، لم تَطْغَ الدعوات إلى المقاطعة داخل المجتمع السُنّي على العملية الانتخابية.

في الواقع، تشير التقارير إلى أن النتيجة المحققة كانت قوية، فقد أثبتت صلابة وشجاعة شعب عانى بشكل متواصل ظلم أكثر الأنظمة الدكتاتورية وحشيةً في العالم العربي، واحتلالا مؤلما وحربا أهلية ذات طابع طائفي مزقت أحياءه ونسيجه الاجتماعي. ساهم بناء المؤسسات الأمنية التدريجي في العراق في نشر هذا الهدوء النسبي: يوجد راهناً ما يقارب مليون شرطي وجندي منتشرين في الشوارع، وهو عدد يعيق المتمردين ويضمن ولاء العناصر إلى المؤسسات الأمنية.

تبدو احتمالات عودة العنف الطائفي الذي أغرق البلاد طوال ست سنوات تقريباً ضعيفة، فلم تتبخر المصاعب، لكن التعب والآثار المنهِكة التي خلفتها أعمال المقاومة وقلة التجانس بين أقاليم البلد ومناطقه المتنوعة تقلل من احتمال نشوء أي حركة تمرد جديدة ودائمة.

لا شك أن بعض العراقيين يشعرون بالسعادة لأنهم حصلوا على حرية اختيار ممثليهم من بين ما يفوق 6 آلاف مرشح، لكن في الأنظمة الديمقراطية الحديثة العهد، لا يكمن الاختبار الحقيقي في إجراء انتخابات مثلاً، إذ تُعتبر السياسات الانتخابية بطبيعتها مثيرة للاهتمام، وجذابة، وحماسية، لكن الأهم من ذلك هو الخلاف بشأن تركيبة الحكومة الجديدة. وحين تنتهي هذه المرحلة المخزية، تصبح شرعية الحكومة وأداؤها من أهم العوامل. نظراً إلى تاريخ العراق الحديث وما جرى في أقرب تجربة ديمقراطية في المنطقة، لبنان، يبدو أن تحقيق هذه الأهداف لن يكون أمراً سهلاً.

حتى لو تحسن الوضع الأمني بشكل ملحوظ، فإن الأشهر الستة الماضية أظهرت أن السياسة في العراق لم تنضج بما يكفي، وبينت ضعف مؤسساتها المتبقية.

 كانت استراتيجيات الولايات المتحدة عاملاً حاسماً في إبقاء الانتخابات على مسارها الصحيح، ولم تتقدم عملية المصالحة السياسية؛ فواقعياً أصبحت الانتخابات حجة لإقصاء الغير بدل ضمّ الأشخاص الذين كانوا في السابق يعارضون هذه العملية السياسية، لقد أُرجئت القرارات الصعبة مثل حلّ وضع كركوك.

لهذه الأسباب، يخشى كثيرون أن تقوم الانتخابات بتعزيز الخلل القائم بدل تصحيح نقاط الضعف هذه، فالعراق الآن سيدخل في مرحلة خطيرة، ولابد من تشكيل حكومة والتأقلم مع انخفاض عدد القوات الأميركية، وقد لا تسير جميع الأمور بشكل إيجابي، فمع تراجع قوة الولايات المتحدة ودعمها تزامناً مع تزايد التدخل الإيراني والعربي والتركي، ستخضع قدرة العراقيين على تقرير مستقبلهم لاختبار صعب.

قبل كل شيء، سيقر العراق مجموعة من القوانين والإجراءات الدستورية الغامضة، ما يسهل التلاعب بها، فما إن تُصدَّق نتائج الانتخابات (وهي على الأرجح عملية مثيرة للجدل)، حتى ينتخب البرلمان الجديد متحدثاً باسمه ثم رئيساً، ولاحقاً رئيس حكومة يضطلع بتشكيل الحكومة.

نظرياً، يُفترَض أن يأتي رئيس الوزراء المقبل من اللائحة الانتخابية التي فازت بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية، شرط أن يكون قادراً على تشكيل حكومة ائتلافية، وإذا فشل في ذلك خلال 30 يوماً، يمكن أن يعيّن الرئيس رئيس وزراء آخر. بما أن تأليف الحكومة الراهنة استلزم خمسة أشهر بعد انتخابات عام 2005، فمن المتوقع أن يشهد العراق مرحلة طويلة ومضطربة هذه المرة أيضاً.

لم يعد المطلب الرسمي بالحصول على أغلبية ساحقة لتشكيل الحكومة- وهي طريقة تعبّر عن حسن نية لضمان التعاون بين مختلف المذاهب لكنها في الواقع تكرس الطائفية- صائباً اليوم، ما يفتح المجال أمام حكم الأكثرية ببساطة.

بما أن التوقعات تشير إلى أنّ أياً من أبرز ثلاثة تحالفات (تحالف دولة القانون الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الراهن نوري المالكي، ولائحة العراقية العلمانية نسبياً التي ينتمي إليها إياد علاوي، والتحالف الوطني العراقي، أي تحالف الأحزاب الشيعية التي تدعمها إيران) لن يفوز بأغلبية المقاعد، ولا مفرّ من إقامة تحالفات بين الأحزاب المختلفة. لكن استمرار صراع الأنا والولاء الحزبي وجداول الأعمال المختلفة ستترسخ أكثر في هذه العملية.

يأمل بعض العراقيين في أن تعوض الحكومة بأدائها ما خسرته بسبب شموليتها، ويستلزم ذلك أن تدعم الأحزاب الحاكمة القوانين الدستورية والإجرائية، وتحترم حقوق الأقليات، وتمتنع عن استغلال السلطة كما اتُّهم المالكي حديثاً. إنها أهداف صعبة التحقيق بالنسبة إلى طبقة سياسية تفتقر إلى الرؤية والنضج.

لكن عملياً، حتى أكثر رؤساء الوزراء الشيعة طائفيةً سيحتاج إلى ادعاء وجود تعاون بين الطوائف المختلفة: باستثناء الكتلة الكردية مثلاً لأنها تهدد وحدة البلاد. هذا ما يجعل التركيبات السياسية المحتملة غير محدودة. قد يقرر المالكي إذا فاز دعوة التحالف الوطني العراقي إلى المشاركة لتأليف حكومة شيعية قوية، لكنه سيفقد بذلك مصداقيته الوطنية الجديدة. أو قد يتواصل مع شخصيات علمانية على أمل أن تتبعه قاعدته الشيعية. يأمل علاوي من جهته أن تفشل المفاوضات بين المالكي والتحالف الوطني العراقي، أو أن تنشقّ التحالفات ليتمكن هو من الظهور بصورة البطل المنقذ.

على ما يبدو توجد طرق عدة يمكن أن تعتمدها الأطراف الخاسرة أو غير الراضية لإضعاف العملية كلها، فعلى سبيل المثال، في حال لم يحقق التحالف الوطني العراقي النتائج المرجوة، يمكنه أن يستعمل نفوذه على لجنة «المحاسبة والعدالة» الشهيرة (والمعروفة أيضاً بلجنة اجتثاث عناصر حزب البعث من الحكومة) ودفعها إلى التدخل في العملية والتشكيك في مصداقية النواب المنتخبين حديثاً.

لا شك أن المداولات السياسية التي تترافق مع صفقات سرية وخطط تقسيمية ستُغضِب الناخبين الذين قصدوا صناديق الاقتراع يوم الأحد، لكن هذا هو الوضع الطبيعي في أي ديمقراطية منقوصة.

* إميل الحكيم | Emile Hokayem

back to top