مدخل إلى نظريّة الأنساق لنيكلاس لومان بحث في أزمة علم الاجتماع
صدر حديثاً عن «منشورات الجمل» كتاب لعالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان بعنوان «مدخل إلى نظرية الأنساق» (ترجمة يوسف فهمي حجازي)، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات كان ألقاها لومان في إحدى الجامعات الألمانية بين عامي 1991 و1992.لومان الممثل والمؤسس الألماني لنظرية الأنساق التي تتميز بأسلوبها الجديد في النظر إلى مجتمع الحداثة وإلى مجتمع ما قبل الحداثة. فبالنسبة إليه، لم يعد التفاوت الاجتماعي مبدأ تحديد التركيب الاجتماعي، شريحة الإقطاع وشريحة الفلاحين مثلاً، بل إن التركيب أخذ منحى التمييز بين المجالات الاجتماعية الجزئية المختلفة أو ما يسميها لومان تمييز الأنساق الوظيفية، كنسق السياسة أو الاقتصاد أو التربية أو القضاء وهكذا. من هنا، نرى أن نظرية الأنساق العامة هي نظرية شاملة يمكن تطبيقها على الأنساق كافة، سواء كانت اجتماعية أم نفسية، وقد ساعد التجريد الشديد الذي اتبعه لومان علة تحقيق هذه الشمولية للنظرية.
يسعى لومان في القسم الأول المقتضب نسبياً، الى تبيان كيف تم العمل في علم الاجتماع وفق توجهات نظرية الأنساق حتى الآن، وبأي من الأشكال والحدود والطرق المسدودة والنقد المبدئي للنظرية اصطدم هذا العمل. وسيتبع هذا القسم قسم أشمل، يسعى فيه لومان الى مراجعة الاجتهادات النظرية ضمن أطر متعددة الاختصاصات ليستنتج ويعرض ما قد يكون مفيداً لعلم الاجتماع. ثم يسعى المؤلف في المراجعات الختامية، من خلال التأملات النظرية التي قد تكون ذات منابع رياضية، نفسية، بيولوجية، إدراكية ومعرفية، أو متعلقة بعلوم الضبط والتحكم، لاستخلاص منطلقات تشييد نظرية علم اجتماعية.يؤكد لومان أن محاضرته «مدخل إلى نظرية الأنساق»، موجّهة بالدرجة الأولى إلى جمهور علم اجتماعي. فعلم الاجتماع اليوم يمر بأزمة نظرية عميقة، بحيث نستطيع حضور ندوات حول المسائل النظرية في علم الاجتماع أو قراءة كتابات ذات صلة بذلك، فنجد أن الرجوع إلى الكلاسيكيين طاغ، أي نجد نقاشات حول أفكار ماكس فيبر وكارل ماركس وغيورغ زيمل أو إميل دوركهايم. فعلماء الاجتماع اليوم هم بالتأكيد ليسوا غير نقديين تجاه أسسهم الكلاسيكية، ولكن يسود تصور مفاده أن معالم الاختصاص قد تحددت عبر هذا البدء الكلاسيكي. وثمة نظريات متوسطة المدى، تمتد إلى أبعد من ذلك كانت قد نتجت من البحث التجريبي، لكن لا توصيف نظرياً للمسائل التي تواجه المجتمع الحديث اليوم، وهذا ينطبق على قضايا البيئة مثلاً، وعلى مشاكل المرء، وعلى غالبية مجالات الحاجة المتنامية الى العلاج وغير ذلك الكثير.لم تتركز غاية هذه المحاضرات على إنتاج كمّ من الفرضيات التي يمكن اختبارها بالتجربة، ومن ثم إعطاؤها للاختصاصيين ليتحققوا من صحتها ويثبتوا ذلك، بل كانت أقرب الى إعطاء فكرة عن أهمية المعمار النظري، وعن قضايا التخطيط والقرارات التي قد ترد على هذا المستوى والتي يمكنها أيضاً امتلاك أسلوبها الخاص في العقلانية أو التجهيزات الجدلية. لا يرى لومان في تسمية هذه المحاضرات بـ{المدخل» لأنها مخصصة للمبتدئين، بل حاول إدخال مفردات في سبيل حل الجدل القائم في علم الاجتماع حول الإشكاليات المفاهيمية والتوصل إلى النظريات والفرضيات التي تكتسب المعرفة بالاستناد إلى التجربة، بحيث لا يتم الحديث اعتباطياً عن أمور موجودة في مكان ما في الكتب وعدم اتخاذ موقف منها، وقد حاول عرض المفاهيم في سياق استعمالها وبحسب معنى مضمونها.في مقدّمة الكتاب يفيد مترجمه يوسف حجازي بأنه حسب لومان يتم التواصل داخل كل نسق بناء على منطق ذاتي مستقل عن منطق الأنساق الأخرى. ويمسي لومان هذه الأنساق بالأنساق الوظيفية لأن كل منها يتفرد بوظيفة اجتماعية مهمة. فنسق القضاء يصوغ المعايير القانونية العامة ويدفع الى تنفيذها، أما نسق العلوم فينتج معارف خاصة بالحقيقة، ونسق السياسة يتخذ قرارات ملزمة للجميع، وهكذا. وهذه الأنساق كافة مبنية بشكل مشابه كما يرى لومان. فكل نسق منها لا يمكنه القيام إلا بوظيفته، وهو مستقل بمعنى إنتاجه الذاتي للقواعد التي يعمل على أساسها، تماماً مثل إنتاجه للعناصر التي تشكّله. ثمة مجموعة مصطلحات مفتاحية أسّس لومان نظريته عليها. وقد حمّل هذه المصطلحات مضامين خاصة لا بد من معرفتها وفهمها عند دراسة هذه النظرية، ومن أهمها: التمييز والتواصل والتكوين الذاتي، وثمة المراقِب والمراقبة التي تستعمل التمييز لوصف جهة دون الأخرى، أي أن المراقِب يميّز بين شيء محدد وكل ما عداه، مسمياً هذا الشيء دون ما عداه. يتحدث لومان عن التكوين الذاتي ويعني بذلك أن النسق لا يمكنه إنتاج عملياته الذاتية إلا من خلال شبكة عملياته الذاتية، التي بدورها هي من إنتاج هذه العمليات. الخلية تتوالد من الخلية مثلاً في الأحياء. وبهذا نكون أمام تدوير للمسألة، وتشكّل التدويرية كما المفارقات سمة ملازمة في صياغة نظرية الأنساق العامة.الملكيّةتتوجّه الأنساق حسب اختلاف رئيس، فسؤال نسق الاقتصاد الرئيس يدور حول الملكية أو عدم الملكية مثلاً، وسؤال نسق القضاء حول مطبِّق للقانون أو مخالف له، وسؤال نسق العلوم يعني بما هو حقيقي أو غير حقيقي، ونسق السياسة حول تملك السلطة أو عدم تملّكها، ويسمى هذا الاختلاف الرئيس أيضاً كود النسق أو رمزه. لا تنطلق نظرية الأنساق كما يقدّمها لومان من قيم مسبقة ومطلقة، طبيعية كانت أم أخلاقية من خارج النسق، بل من معايير الحكم على الفعل الإنساني تصاغ بمجملها داخل المجتمع ذاته. وقد عرف لومان من خلال تطويره وتجذيره لنظرية الأنساق، بعد أن كانت قد واجهت نقداً حاداً في ستينات القرن الماضي، وهي نظرية يستفاد منها اليوم في مجالات كثيرة كالاقتصاد والسياسة والعلوم والعلاج النفسي والإعلام وغير ذلك. نظرية الأنساق العامة كنظريات الأنساق الحديثة كافة تعتمد وتؤسس على التمييز بين النسق والبيئة. أي على خط ورسم الحدود بينهما. حيث تتشكل بيئة النسق في كل ما عداه، وليس المقصود هنا البيئة الطبيعية وحسب بل البشر جميعهم والأنساق الأخرى كافة. واستناداً إلى هذه الرؤية يمكن تحليل كيفية قيام الأنساق وتغيرها بالنسبة الى البيئة المتغيرة باستمرار، ونكون هنا أمام نسق متغير وبيئة متغيرة دائماً. وقد يرى البعض انعدام إمكان رسم حدود بين بيئة ونسق يدأبان على التغيير، غير أن هذا الأمر ممكن لأن الأنساق تُعرِّف حدودها بنفسها. في النسق لا شيء آخر سوى عملياته الذاتية، وذلك لغايتين مختلفتين: الأولى، تكوين البنى الذاتية، حيث يتوجب تشكيل البنى الذاتية لنسق منغلق العمليات عبر عملياته الذاتية، أي لا يوجد استيراد للبنى، وهذا يعني أن ثمة «تنظيماً ذاتياً». أما الثانية فليس بحوزة النسق وتحت تصرفه سوى عملياته الذاتية لكي يحدد الحالة التاريخية، أي الحاضر الذي لا بد لكل شيء من أن ينطلق منه. ويتم تعريف الحاضر بالنسبة الى النسق من العمليات الذاتية.من المتفق عليه بأن البيئة أكثر تعقيداً من النسق، إذ تقول نظرية الأنساق العامة بوجود الترابط البنيوي وهو عبارة عن قنوات تربط النسق بالبيئة ويتم من خلالها اختزال التعقيد، أي اختزال كم كبير من الوقائع الموجودة في البيئة.