عيون

نشر في 12-06-2009
آخر تحديث 12-06-2009 | 00:00
 محمد سليمان «العين عليها حارس» يقولون في القرى والأحياء الشعبية مشيرين إلى مكانة العين وأهمية دورها ووظائفها، فالحارس لا يحرس سوى العظيم والثمين والخطير والغالي، وكلمة العين هي الكلمة الأكثر شيوعا وتلونا في الأدب والشعر وفي أحاديث الناس وتراثنا الشعبي. فهناك العين الحمراء عين الغاضب والزاجر والمهدد، والعين الصفراء الدالة على الحقد والكره، والبيضاء التي تشير إلى عدم الدقة واللامبالاه والعمى، وهناك العين الباردة الطيبة والمحبة في مقابل العين «المدورة» التي تخص الحاسد والساحر، وقد كانوا في القرى يخشونها ويسعون إلى اتقاء شرها فيرسمونها على الورق، ثم يخرمونها بالإبر والدبابيس قبل حرقها لإبطال السحر والحسد، وهذه الطقوس كانت ومازالت بنتا للخيال والخرافة الشعبية.

و«العين» قصة للكاتب الأميركي «بول بولز» نشرت ضمن مجموعته «العقرب وقصص أخرى» ترجمة محمد هاشم عبدالسلام وإصدار المشروع القومي للترجمة عام 2008 والقصة محورها الحسد والسحر وتدور أحداثها في مدينة طنجة، وبطلها أحد المغتربين الذي تسلل بعد فشله في إسكات طفلة طاهيته التي تلهو في فناء المطبخ «بهدوء حول البيت من الخارج ثم هبط إلى الفناء وحبا على يديه وقدميه ووضع وجهه في وجه الطفلة وتجهم بصورة وحشية جدا فأخذت الطفلة في الصراخ وعندما أخذتها أمها إلى البيت كانت لاتزال تبكي، ثم أصيبت بحمى شديدة، وظلت عدة أسابيع بين الحياة والموت، وعندما تجاوزت مرحلة الخطر كانت قد فقدت القدرة على السير» بهذه البداية يضعنا الكاتب في قلب عالم الأساطير والخرافات وطقوس إبطال السحر والحسد وشر عين الحاسد المغترب لإنقاذ الطفلة، وهي الطقوس التي تمارسها الطاهية وعائلتها من المغاربة «أخذت مريم- الطاهية- تستشير فقيها تلو الآخر. وأجمعوا كلهم على أن «العين» قد أصابت الطفلة وكان الواضح أن من أصابها هو النصراني الذي كانت تعمل عنده، وكان عليها أن تفعل ما قالوه لها... ولم تكن العقاقير التي أعطتها له مؤذية بل مجرد دواء لجعله أكثر استرخاء بحيث عندما يأتي الوقت المناسب لفك أو إبطال السحر لا يبدي أي نوع من أنواع المعارضة».

العقاقير المدسوسة في الطعام أنهكت المغترب وخدرته ومكنت المعالجين بالخرافة الشعبية من إتمام مهمتهم وحفر باطن قدميه بطريقة مرتبة ومنظمة وبشقوق عميقة لرسم أشكال معينة.

***

وقد انشغل الناس في معظم الثقافات بعين أخرى قادرة على الإيذاء أيضا هي عين الراصد الذي يراقب ويتجسس ويكتب التقارير التي يسوق بها الناس أحيانا إلى الجحيم. وبسبب الخوف من هذه العين والرغبة في الابتعاد عنها واتقاء شرها أطلق الناس على صاحبها اسم «العين» وقد كان هناك دائما من يميل علي في المقاهي والأمسيات الأدبية لكي يحذرني قائلا «أنت تجالس عينا» أي مخبرا أو جاسوسا، وقد أربكتني كثيرا هذه التحذيرات في بداية السبعينيات وأثرت على علاقاتي بالآخرين، ثم اكتشفت هواجس الشعراء والكتاب وولع بعضهم باتهام زملائهم دون مبرر مقنع.

وقد فجع الإيطاليون في الأعوام الأخيرة عندما اكتشفوا أن كاتبهم الكبير اجنازيو سيلوني الذي هز الأوساط الأدبية في الثلاثينيات والأربعينيات بروايتيه «فونتمارا» و«خبز ونبيذ» كان عينا وعميلا للنظام الفاشستي قبل أن ينسحب من الحزب الشيوعي الإيطالي ويتفرغ للكتابة. وقد رفض معظم أصدقاء سيلوني ومحبيه قراءة وثائق البوليس الإيطالي التي تثبت خيانته بعد طبعها في كتاب بعنوان «المخبر» معلنين أن الكاتب الكبير كان مناضلا شجاعا عارض الفاشية منذ البداية وتحمل سنوات المنفى والاضطهاد في سيبل مبادئه، وأنه كان رمزا للاستقامة الشخصية. وكتب أحدهم يقول «لا أصدق هذه الوثائق حتى لو نهض سيلوني من قبره وأكدها». لكن ألكسندر ستيل في مقاله «إيطاليا تتطهر وتكشف سيلوني» الذي ترجمه الكاتب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين ونشره في كتابه «جنون إزرا باوند وآخرين» يبحث عن دافع سيلوني للوشاية في روايته «خبز ونبيذ» ويقف عند أحد أبطالها الذي يعترف بأنه كان مرشدا للبوليس «بعد اعتقاله وضربه يقترب منه رجل بوليس ودود يعرض عليه مساعدته مقابل معلومة صغيرة... في البداية يقدم الشاب معلومات عامة وتحت الضغط يقدم معلومات أكثر تفصيلا ويعوض عن خيانته بالانخراط بجهد أكبر في سبيل القضية وهو يقول: أرهق نفسي لكي أنسى سري وحين يشيد رفاقي بشجاعتي ونشاطي فإن ذلك يذكرني بأنني في الواقع أخونهم». لكن كاتب «فونتمارا» سيظل رغم هذا اللغط مبدعا كبيرا.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top