الشاعر العراقيّ شوقي عبد الأمير: المعركة ضد الموت تعمّق الحياة
أصدر الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير ديوانه الجديد «محاولة فاشلة للاعتداء على الموت» (عن دار الجمل)، مرفقاً بلوحات للرسام العراقي الراحل أحمد مير.يبدو الشاعر من خلال قصائده مهجوساً بالمكان والموت اللذين يشكلان منزلاً للمعاني والكشوفات الشعرية العميقة. معه الحوار التالي.
أبدأ من عنوان ديوانك الجديد «محاولة فاشلة للاعتداء على الموت»، لماذا لدى معظم الشعراء هاجس الكتابة عن الموت أكثر من الحياة؟صحيح، أعتقد أن كل عمل إبداعي، كل خلق جمالي، هو محاولة لاختراق الموت، هذا الموت الذي ننظر إليه في كل لحظة في الحياة. نحن نبدع في معركتنا ضد الموت... نعمّق الحياة، والوجود بتجلياته كافة وأحاسيسة وكشوفاته ومعارفه. ما تتحدّث عنه بمثابة حملات حقيقية ضد الموت، لكن المحاولات كافة في هذا المجال فاشلة، على رغم أن المغامرة البشرية كلها هي حملة ضد الموت، لماذا؟ أولاً، لأنه شيء مجهول، وثانياً لأنه الحقيقة الوحيدة بحسب الفلاسفة. أعود إلى الموت بأشكال مختلفة، وضعتها هذه المرة في عنوان الكتاب مجاهراً.يحضر الموت بقوة في ديوانك الأخير فحسب، أم أنه يلازم شعرك منذ البدايات؟الموت هاجس، لكن طبعاً، وأنا كعراقي أعتبر أنّه محصلة تطورات دموية شهدها العراقيون منذ خمسة عقود، والآن ألقي عليها الضوء بقوة لسبب ما.لم لا تسمي ما يحصل في العراق بالقتل اليومي؟نعم، القتل اليومي، الموت القسري، الاغتيال، اغتصاب الحياة. طبعاً ثمة لعبة عجيبة في اللغة العربية اكتشفها المتنبي في ما يخص الموت. نقول: المنية، الموت، الأجل، الوفاة، ونفرق هذه المصطلحات عن القتل والاغتيال. قال المتنبي في أعظم بيوته الشعرية: «اذا ما تأملتَ الزمان وصرفه تيقّنتَ أن الموت ضربٌ من القتل»، بسبب تواطؤ المرادفات في اللغة العربية، اعتبر المتنبي أن كل موت هو اغتيال. يقول رولان بارت «الذاكرة بداية الكتابة والكتابة بداية الموت»، هل هذا العبارة تنطبق على شعرك وكتابتك؟أعتقد أن الذكريات مثل وشائج خفية، تجرنا خارج الحياة، هي خارج الوجود على أي حال، ليست موجودة الا كمحنطات وتحف وكصور، وأقول في الكتاب:بسهولة يمكن أن تقطع بسهولة الأشياءوكل المحسوسات،ولكن هل جربت أن تفعل ذلكمع الذكرى؟ألهذا كان الله الأقوى.الذكرى عبرت الحياة إلى ما وراء الحياة، التيار الكهربائي الذي تمر به هذه الشحنة هو الذات، فالشعراء والبشر تيارات كهربائية تمر فيهم شحنات الذكرى، المستقبل في الزمن الآتي أما الحياة ففي ما يأتي من الزمن، ومحصلة الذكريات تكون توابيت متنقلة.الهاجس الآخر في شعرك هو المكان، لماذا؟كنت قلت في قصيدة «أبابيل» قبل أكثر من عقدين: «حين يتوقف الزمن عن الحركة يصير مكاناً»، المكان بالنسبة إليّ هو الحقيقة، الزمن قضية هلامية تتجلى في لحظة وتتوقف، والشاهد الوحيد على الزمن هو المكان، لذا قراءتي الشعرية الحقيقية هي في المكان. كتبت ديواناً بالفرنسية لم يترجم بعنوان «أمكنة بلا أرض»، لأن الأرض التي تقف عليها هي مكان، الأندلس مكان، العراق أصبح بالنسبة اليّ مكاناً أسطورياً. من هنا أعتبر المكان هو الحوض الحقيقي الذي يتضمن كل شيء من رموز وأبطال، ويمنح الشعر تجريداً وخروقات زمنية هائلة.المكان اللامرئي، ماذا يعني لك؟يدخل المكان اللامرئي في مواضيع الذاكرة، ويرى عبر تيارها الكهربائي.على أي مكان تركز في كتاباتك: المكان حيث تعيش، أو أي مكان في العالم؟على المكان الذي أعيش فيه، في المقابل ثمة أمكنة تعني لي الكثير، الوطن يعني لي أيضاً، وبعض الأمكنة مشحونة بدلالات، مثلاً منطقة الدلتا بين مصر وفلسطين!! السؤال لماذا الأديان السماوية ظهرت في منطقة الدلتا، ولماذا ليس في مكان آخر من العالم؟ لماذا لم تظهر في أميركا اللاتينية أو أفريقيا أو أوروبا؟ كانت القدس تسمى مدينة السلام للوثنيين قبل مجيء اليهود، كانت منطقة منزوعة السلاح، المتحاربون في العصور القديمة كانوا يتخلون عن السلاح ويأتون الى هذه المنقطة للتفاوض. أتى اليهود واحتلوا القدس واعتبروها عاصمتهم وبنى فيها سليمان هيكله.كذلك ظهرت المسيحية وولد المسيح في المكان نفسه، ولاحقاً عندما بعث النبي محمد الرسالة السماوية اختار القدس لإرسالها... للأمكنة أسبابها، وشيء في الميتافيزيقيا يقول إن هذه المنطقة حساسة. فاذا اهتزت إبرة في منطقة فلسطين تهزّ العالم، وإذا احترقت أفريقيا لا يهتم أحد.بعد سقوط صدام وعودتك إلى بغداد، كيف كان المكان بالنسبة إليك، كيف شعرت فيه، خصوصاً أن بعض المثقفين عاش صدمة زوال المكان هناك؟كتبت كثيراً عن هذا الموضوع، وأنجزت أخيراً قصيدة عن المكان العراقي، هذا المكان الذي دخلت إليه بعد 30 عاماً من الغياب، لم أجد إلا هياكل عظمية لكائنات وأشياء، النهر هيكل عظمي، العمائر ألوانها مقشرة وشاحبة، زجاج هرم ومتآكل، الناس يخرجون من تحت الأنقاض، الوطن عباءة ممزقة مغربة وملطخة بالدم، العراق عندما زرته بعد غياب وجدته كارثة حقيقية، كأني أنزل في إحدى مدن الطوفان الواردة في كتب التاريخ، مدمرة ومنهارة وتركها الغزاة، بعد أن سلبوا وحرقوا كل شيء، وأنا أبحث بين الأنقاض عن أحياء. العراق بعد سقوط صدام كان وطناً منتهياً.كل عراقي يحمل آلام الكون، بغداد كانت فعلاً عاصمة الألم، وما زالت.كيف تقرأ حركة الشعر في العراق بعد سقوط صدام، ألا تلاحظ صعود موجة روائية عراقية أكثر من الشعر؟لم ألحظ صعود موجة الرواية العراقية، بل اعتبر أن العراق ما زال وفياً لموهبتي الشعر والفن التشكيلي، هاتان الموهبتان العظيمتان، طبعاً يحظى بروائيين مهمين وموسيقيين أيضاً، لكن أذا اردت أن تخصص العراق بشيء، فبالشعر والفن التشكيلي. لم يؤثر سقوط صدام كثيراً على الحركة الشعرية، الفرق الوحيد أنك أصبحت تلتقي الشعراء بسهولة، وأصبح هناك «بيت الشعر العراقي» ومجلات ثقافية، وندوات.لماذا ترفق دواوينك بأعمال تشكيلية؟دواويني كافة مرفقة بلوحات تشكيلية، لأنني أعشق الرسم، وأحياناً يكون شغفي في لوحة أكثر من قصيدة، أعود إليها مراراً، أتوغل في ألوانها، وأكتب عنها وأستلهم منها بشكل لامتناهٍ.