ما الخطب في واشنطن؟

نشر في 28-02-2010
آخر تحديث 28-02-2010 | 00:01
تواجه السياسة الأميركية طريقاً مسدوداً على غير عادة في الوقت الراهن، يقع اللوم على باراك أوباما لا على النظام.
 إيكونوميست هذا الأسبوع، أعلن إيفان باييه، وهو عضو في مجلس الشيوخ عن ولاية إنديانا وكاد أن يصبح نائب الرئيس باراك أوباما، استقالته من مجلس الشيوخ، ملقياً اللوم على عدم قدرة الكونغرس على إقرار المشاريع. يرى النقاد أن باييه كان قلقاً أيضاً من التعرض للهزيمة في نوفمبر (مع أنه كان متقدماً في استطلاعات الرأي)، لكن سادت أخيراً فكرة أن الديمقراطية الأميركية انهارت وأصبحت غير قادرة على حلّ مشاكل البلاد وخاضعة للنزاعات الحزبية.

لا شك أن النظام تشوبه اختلالات كثيرة... صحيح أن الرئيس الموجود في البيت الأبيض هو من الحزب الديمقراطي، وأن الديمقراطيين يسيطرون على مجلس النواب ومجلس الشيوخ معاً، لكن أوباما لم يستطع تمرير مشروع قانون إصلاحات الرعاية الصحية، وهو هدف يصبو إليه الديمقراطيون منذ عقود عدة. أُقرّ القانون الذي وضعه بشأن تخفيض انبعاثات الكربون في مجلس النواب، لكنه تجمّد في مجلس الشيوخ، والآن ها هو القانون الخاص بتعزيز فرص العمل عالق في مجلس الشيوخ أيضاً، ولا يتعلق الأمر حصراً بفشل الحزب الحاكم في فرض قراراته. تبدو واشنطن عاجزة عن حلّ المشاكل الأعمق التي تواجهها الولايات المتحدة. قد يختلف الديمقراطيون والجمهوريون بشأن التغيرات المناخية والقطاع الصحي، لكن أحداً لا يظن أن الولايات المتحدة يمكنها تجاهل العجز الفدرالي، الذي بات يشكل الآن 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وسط نزعة جيل الطفرة السكانية السابق إلى التنحي، لكن سرعان ما انهارت أخيراً محاولة إنشاء لجنة مستقلة مؤلفة من الحزبين لتخفيض نسبة العجز مجدداً.

يرى النقاد أن هذه الحالة هي الوضع الطبيعي الذي يحصل حين يتمكّن مجرد 41 سيناتوراً (من بين 100 عضو نافذ في المجلس) من إعاقة إقرار مشروع قانون بشكل جازم، وحين تحصل ولايات مثل وايومينغ (عدد سكانها: 500 ألف نسمة) على النفوذ نفسه الذي تتمتع به كاليفورنيا (37 مليون نسمة) في مجلس الشيوخ، ليتمكّن أعضاء المجلس الذين يمثلون أقل من 11% من الشعب من إعاقة القوانين؛ وحين يكون عدد كبير من مقاعد الكونغرس مؤمّناً سلفاً بعيداً عن المنافسة الانتخابية بفضل التقسيم الانتخابي؛ وحين يقضي كتاب المدونات الحقودون ومذيعو برامج الراديو الحوارية على كل أمل في التوصل إلى تسوية؛ وحين يؤدي فيض الرشاوى التي تدفعها جماعات الضغط إلى نشر الفساد في جميع المجالات. في الواقع، يتخطّى هذا الخلل حدود الولايات المتحدة. منذ بضع سنوات، كان المسؤولون الصينيون في الإدارات العامة وحدهم يتجرؤون على قول إن النظام الحكومي الأوتوقراطي في بكين يتفوّق على غيره. اليوم، يكثر القادة في البلدان الناشئة، أو حتى رجال الأعمال الأميركيون البارزون، الذين يشيدون في مجالسهم الخاصة بنظام يمكنه اتخاذ قرارات سريعة.

لا بأس بالوضع القائم

لكننا لا نوافق على هذا الرأي... لقد ارتكبت واشنطن الأخطاء، لكن يمكن إصلاح بعضها بسهولة، وتزامنت هذه الضجة الحاصلة راهناً مع نسيان هدف الحكومة الأميركية، الذي سيساعد السياسيين الراهنين (وتحديداً أوباما) في الخروج من المأزق.

أولاً، لابد من الاعتراف بأن النقاد يبالغون في مواقفهم... يخطئ من يؤكد استحالة تمرير أي قانون في الكونغرس، ويكفينا النظر إلى الأزمة المالية الراهنة. أُقرّ مشروع برنامج إغاثة الأصول المتعثرة المهم TRAP، الذي أنشأ صندوقاً لإنقاذ المصارف الأميركية، مع أنه صدر في نهاية عهد جورج بوش. على صعيد آخر، أُقرّ قانون التحفيز الاقتصادي، مشروع بقيمة 787 مليار دولار يمتدّ على سنتين، خلال شهر من تولّي أوباما الرئاسة. كذلك، نجح الديمقراطيون في تمرير لائحة طويلة من المشاريع الأقلّ أهمية، بدءاً من الاستثمارات في التكنولوجيا الخضراء ووصولاً إلى مساعدة النساء في إثارة قضايا بشأن مسألة تعرضهن للتمييز الجنسي.

برز انتقاد أقوى من ذلك مفاده أن الحكومة الأميركية تجيد حلّ المشاكل الحسّاسة (مثل منع الاكتئاب) لكنها لا تجيد في المقابل مواجهة المشاكل المزمنة (مثل عبء البرامج الحكومية الهادفة). لكن في هذا الرأي نوع من المبالغة، فقد فشل بوش في إصلاح معاشات التقاعد، لكنه جاهد لإقرار قانون رعاية الطفل، وهو أكبر تغيير حصل في المدارس منذ جيل كامل. نجح بيل كلينتون من جهته في إصلاح الرعاية الاجتماعية. بعبارة أخرى، يمكن أن ينجح النظام حتى لو لم يحقق النتائج المرجوة دائماً. (إنه أمر شائع في كل مكان: بصعوبة حققت الصين نجاحاً في الرعاية الصحية أخيراً، على الرغم من سرعتها في إعطاء التصاريح لمحطات توليد الطاقة). لكن تشكّل الموازنة مصدر القلق الأكبر، إذ قد يحتاج حل الوضع إلى حصول أزمة لإقرار خطوات عملية سريعة، لكن سبق أن واجه الأميركيون حالات عجز كبيرة في السابق.

أُعدّت البنية السياسية الأميركية لتصعيب التشريعات على المستوى الفدرالي بدل تسهيلها. كان مؤسّسوها يعتبرون أن أفضل طريقة لحكم بلدٍ بحجم الولايات المتحدة تحصل محلياً لا وطنياً، وتأكيداً على هذه الفكرة، أبدت ولايات عدة دعمها لفرض إصلاحات في مجال الرعاية الصحية. أُسّس مجلس الشيوخ، الذي يُنتقَد بسبب ممارساته التقليدية مثل إعاقة القوانين وتصويت إغلاق النقاش، ليكون مجلساً "بارداً" حيث تتجمّد القوانين ما لم تحصد دعماً واسعاً.

من الواضح أن مشروعي الرعاية الصحية وتخفيض انبعاثات الكربون يفتقران إلى الدعم الواسع من الناخبين، ويمكن أن ينجح الديمقراطيون في إقرار قانون صحي غداً إذا وافق مجلس النواب على تمرير نسخة مجلس الشيوخ. ويمكن أن يمرر أوباما عدداً كبيراً من لائحة مشاريعه بموجب أمر تنفيذي. يخطئ من يقول إن الولايات المتحدة بلد لا يمكن حكمه، بل الأصح هو الاعتراف بأن أوباما ارتكب أخطاء كثيرة بفشله في استمالة الجمهوريين والمستقلين لدعم القضايا التي تحتلّ الأولوية بالنسبة إليه. لو أنه، بدل تقديم ملف الرعاية الصحية إلى اليساريين في حزبه، التزم بوعده بالتصرف كرئيس للحزبين معاً، ولو أنه تقرب من المحافظين من خلال عرض إصلاح شوائب النظام، لضَمن تمرير مشروع الرعاية الصحية. من خلال التنازل قليلاً في مجال الطاقة النووية، قد يحصل أوباما في الوقت الراهن على فرصة إقرار قانون المناخ. ولنتذكر ما إن اطلع كلينتون على إيجابيات التعاون مع الجمهوريين، تحسن أداء الحكم في البلاد.

إعادة تقسيم المقاطعات

النظام الأساسي نافع إذن، لكن ذلك ليس عذراً لإهمال الجوانب التي تحتاج إلى إصلاحات حقيقية، ويشكل التقسيم الانتخابي الموضوع الأكثر إثارةً للجدل في مجلس النواب. إنّ التقسيم الذي يؤمّن المقاعد للجمهوريين والديمقراطيين يعني أن المعارك الحقيقية تدور بين ناشطي الأحزاب على مستوى ترشيح الشخصيات من كل حزب، ويدفع هذا الأمر المرشّحين إلى القيام بأقصى ممارسات الفساد والإفساد، ما يقلل من فرص التعاون بين الحزبين. كما أن لجنة مستقلة (من الحزبين)، قائمة أصلاً في بعض الولايات، ستتحمل مسؤولية إدارة هذه العملية. وفي مجلس الشيوخ، يُستعمل حق إعاقة القوانين في حالات كثيرة جداً، ويعود ذلك جزئياً إلى سهولة تطبيق الأمر. يُجبَر أعضاء مجلس الشيوخ الذين يريدون التداول في أي مشروع على فتح نقاش في الموضوع، وبالتالي لا يمكنهم الاكتفاء بالتصويت على القرار: عندها يمكن أن يعرف المصوّتون الأعضاء الذين أعاقوا القرار.

لابد من تصحيح هذه الشوائب وغيرها من الأخطاء، لكن حتى لو لم تتم عملية الإصلاح هذه، فإن ذلك لا يؤكد انهيار النظام بالقدر الذي يدعيه الناس اليوم. للديمقراطية الأميركية نجاحاتها وإخفاقاتها: أقل ما يمكن قوله في هذا المجال هو أن محاولات إصلاح النظام بشكل جذري، مثل المبادرة الجنونية في كاليفورنيا، لديها تاريخ حافل بالتناقضات، وبدلا من الندم على تصرفات الجمهوريين في الكونغرس، يجب أن يدقق أوباما في طريقة استعماله للنفوذ الرئاسي.

back to top