فريد زكريّا في عالم ما بعد أميركا... رحلة القوّة: الغرب ... فأميركا ... فالصّين
قد يكون زمن الاستعمار المباشر انتهى، ومع الأمم المتّحدة، المؤسسّة العالميّة الأكبر، أمسى استقلال الدول مصاناً، ولو نظرياً أحياناً، غير أنّ دول العالم لا تزال في سباق لا ينتهي باتجاه النفوذ الأكبر على مستوى الكرة الأرضيّة برّاً وبحراً وجوّاً، وحتى في عالم الكواكب...ممّا لا شكّ فيه أنّ أميركا هي الدولة الأقوى في عالمنا منذ بضعة عقود، وقد ساهم انهيار الاتحاد السوفياتي في تقدّمها أكثر فأكثر نحو سيادتها على العالم وبشكل نسبيّ، لكنّ الدول كلّها ترتبط مباشرة أو بطريقة ما بالنشاط الأميركي العالميّ المتعدّد الأوجه. والسؤال عن تراجع النفوذ الأميركي وتقلّصه بات مطروحاً، لا سيّما بعد الكارثة الاقتصاديّة التي هزّت العالم بأسره، ابتداءً من أميركا، والانهيارات الماليّة المخيفة سنة 2008 التي يتوقّف عندها الأميركيون قبل غيرهم، ويتساءلون عن مرحلة ما بعد الوصول إلى رأس الهرم، وعن مدى قدرة البقاء هناك.
في كتابه «عالم ما بعد أميركا» يفتح فريد زكريّا، رئيس تحرير جريدة «نيوزويك انترناشيونال»، الملفّ الأميركي الراهن، ويحاول توجيه التحليل المثقل بالوقائع والأرقام والتواريخ نحو الاستنتاج اللافت الذي يختصر بانحسار أميركا ودخولها مرحلة الجَزْر المتواصل الذي لن يعقبه مَدّ، وليس أمام دول الغرب إنّما في مواجهة الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا وكينيا ودول أخرى كثيرة.يردّ زكريّا سبب الانهيار الاقتصادي الأميركي الكبير إلى النجاح، ويلاحظ أنّ الربع الأخير من القرن الماضي شهد نموّاً استثنائيّاً وصار حجم الاقتصاد العالمي سنة 2008 اثنين وستين تريليون دولار وكان سنة 1999 واحداً وثلاثين تريليون دولار، وتزامن ذلك مع انخفاض التضخّم الداعي إلى الدهشة. وفي العامين 2006 و2007، وهما ذروة العصر الذهبي، نمت 124 دولة بنسبة 4 في المئة سنويّاً. ويُشار إلى أن قوى سياسية واقتصاديّة وتكنولوجيّة وقفت وراء هذا النموّ العالميّ. فسياسيّاً أنتج انهيار الاتحاد السوفياتي الاستقرار السياسي النسبي في العالم وتقلّص نطاق الحروب. واقتصاديّاً رفد انهيار الشيوعيّة رأسماليّة الأسواق الحرّة بقوّة ملحوظة، إذ أصبحت الطريقة الوحيدة لإدارة الاقتصاد. وتكنولوجيّاً استعجلت ثورة المعلومات ولادة الاقتصاد العالميّ الواحد، مع انخفاض تكاليف الاتصالات ووصول المعلومات إلى الجميع وفي كلّ مكان بلا عناء يذكر...مجتمع استهلاكيعلى مستوى أميركا، فإنّ الدين هو أساس نكبتها الماليّة التي تهدّد نفوذها العالميّ. فالأميركيّون منذ الثمانينات شعب يستهلك أكثر ممّا ينتج ويردم الهوّة بين الاستهلاك الكبير والإنتاج القليل بالاقتراض. والدّين العائلي الأميركي ارتفع من 680 مليار دولار سنة 1974 إلى 14 تريليون دولار سنة 2008، وهكذا أصبحت أميركا أمّة من المدينين. والمشكلة ليست، من حيث المبدأ بالاقتراض والرافعة الماليّة، إنّما هي في عدم استعمالهما وإدارتهما بحكمة. ولم تصل أميركا إلى هذا الواقع الاقتراضي المخيف لولا بعض الدول وفي مقدّمها الصّين. من هنا يرد احتمال نهوض هذه الدول المقرضة على حساب التراجع الأميركي. والصّين تعتمد سياسة الادّخار المالي وتعزيز سياسة الإقراض مع أميركا، وهي تتحمّل سلبيّة الادّخار غير الكارثيّة بعدما رأت نتائج الأزمة الآسيويّة سنة 1997 حين هوى اقتصاد آسيا وأنقذه مصرفيّو الغرب بشروط طاعنة في الصعوبة. ويرى المؤرّخ نيال فيرغيسون أنّ انفصال الصين عن أميركا يعني نهاية العولمة. ويبقى الحلّ الأفضل بالتعاون الصيني الأميركي لفكّ وثاقهما الانتحاري المشترك، فالصين تنتفع بنموّ خزينتها الماليّة للاستثمار في اقتصادها المحلّي، وأميركا تلجأ إلى قرارات صعبة لتحسين وضعها الذي لا يحتمل أيّ تأجيل. اللافت في أزمة 2008 الماليّة أنّها نشأت في معقل الرأسماليّة المتمثّل بأميركا، ومنها عبرت إلى النظام الماليّ الدوليّ. وإن عجزت هذه الأزمة عن تهديد النظام الرأسمالي فإنّها قادرة على الحدّ من الهيمنة الأميركيّة على العالم. وقد يسرّع الهيجان الاقتصادي العبور إلى عالم ما بعد أميركا. وكما نزعت حرب العراق الفاشلة الصفة الشرعيّة عن السلطة السياسيّة العسكريّة الأميركيّة بالنسبة إلى العالم، فإنّ أزمة أميركا الماليّة ستساعد على نزع شرعيّتها الاقتصاديّة أيضاً. وحريّ بالذكر أنّ الاقتصادات الجوهريّة في الأسواق الناشئة مثل أسواق الصين والهند والبرازيل قادرة على امتلاك نشاط اقتصادي خاص لا يرتكز على التصدير إلى الغرب ويرى صندوق النقد الدولي أن معظم النموّ العالميّ لسنة 2009 ستنجزه الأسواق الناشئة التي ستحقّق بذلك بعض الاستقلاليّة عن أميركا للمرة الأولى في تاريخها. وفي المرحلة التي تتمخّض بتحوّلات كبرى يبقى التحدّي الكبير الذي يواجه باراك أوباما مختصراً بالتأسيس لنظام جديد من العلاقات الدوليّة يثمر تعاوناً دوليّاً حقيقيّاً وفاعلاً ويكون ضمانة للسلم والنموّ والحريّة في العالم كله.نهوض وانحساريحاول فريد زكريّا في كتابه أن يظهر نهوض أمم مقابل الانحسار الأميركي ويبشّر بتحوّل كبير يجري اليوم في العالم. فبعد بروز العالم الغربي في القرن الخامس عشر، وأميركا في أواخر القرن التاسع عشر، يعيش العالم، اليوم، التحوّل الكبير الثالث، الذي يسمّيه زكريا «نهوض البقيّة». والتحوّل الاقتصادي العالمي استوعب فقراء العالم، وللمرة الأولى نشهد نموّاً عالميّاً حقيقيّاً يقود إلى نظام دوليّ الدول فيه لاعبون مستقلّون لا مراقبون ومتلقّون. والانتقال إلى عالم ما بعد أميركا لا يعني الوصول إلى عالم معادٍ لأميركا.وإذا كان واقع العالم الراهن يبدو إعلاميّاً بالغ الخطورة فإنّه في حقيقة الأمر ليس كذلك. ولا احتمالات لنشوب حروب بين دول كبرى، وبالنظرة إلى السياق التاريخي فالوضع يتّصف راهناً بهدوء استثنائي وغير عاديّ. مثلاً، ما يوصف اليوم بالإرهاب الإسلاميّ ويتصدّر الصحف ونشرات الأخبار عائد إلى عدد قليل من المسلمين المتعصّبين الذين أصبحوا مرفوضين من المجتمعات الإسلاميّة قبل غيرها وأسهم أسامة بن لادن والقاعدة في تراجع متواصل إسلاميّاً. وبعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) لم يعد نشاط القاعدة والأصوليّين إرهابياً لافتاً، وطورد الإسلاميّون الإرهابيّون في معظم دول العالم شرقاً وغرباً... ويعزّز الهدوء النسبي العالميّ تفوّق الاقتصاد على السياسة. والحروب تفقد قدرتها على إعاقة الأسواق إلاّ لمدّة محدودة.التحدي المقبليستشرف زكريّا عالم الغد بعد تحليل وعرض معزّزين بالشواهد فيراه مشدوداً إلى الصين والهند. ويختصر التحدّي المقبل بالجغرافيا والتاريخ والمصالح والإمكانات المختلفة، مشيراً إلى أن التحوّل الكبير مرتبط بالقوّة لا بالثقافة. فالصين تملك احتياطاً من العملة الأجنبيّة يقدّر بـ 1,5 تريليون دولار، أي أكثر بثلاثة أضعاف ممّا يملكه الاتّحاد الأوروبّي كلّه. ما يعني أنها ذات قدرة رائعة على مواجهة أيّ صدمة أو أزمة. وهي ثاني أهمّ دولة في العالم (بعد أميركا). وما يعزّز تقدّمها ونموّها أنّها تنهض بصورة سلميّة وبتواضع، بعيداً عن التدخّل في خصوصيات الدول، محافظة على علاقات ودّيّة مع الجميع.بروز الصين ونهوضها واقع حقيقيّ ملموس، غير أنّ نهوض الهند لا يزال إلى يومنا متعلّق بالمستقبل. وبحسب دراسة غولدمان ساكس سيصبح الاقتصاد الهندي سنة 2015 بحجم الاقتصاد الإيطالي، وسنة 2020 سيقترب من الاقتصاد البريطاني، وسنة 2040 ستكون الهند صاحبة المرتبة الثالثة في السلّم الاقتصادي العالميّ.بموازاة «نهوض البقيّة» يجد زكريّا أن أميركا ستحافظ على نفوذها السياسي والعسكري عالميّاً، على رغم ضعفها الاقتصادي. ولن تواجه واشنطن منافسها إلاّ بعد فترة طويلة نسبيّاً، غير أنها ستواجه شيئاً فشيئاً القيد تلو الآخر. ولن تتمكّن أميركا من الاحتفاظ بموقع لائق مستقبليّاً ما لم تنجز مقاربة جديدة للعالم ترتكز على أن الأخير يتّسع لنموّ الجميع وبالتساوي الحرّ.