«العقيد» يطلب رؤية «الأستاذ» حول تطوير الجامعة العربية
هيكل والقذافي... حوار الصحافي والزعيم في بيت العزيزية
طلب الزعيم الليبي معمر القذافي من الكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل تقديمَ رؤيته حول سبل تطوير الجامعة العربية. ذاك كان هدف رحلة الـ16 ساعة المرهقة التي قام بها هيكل بناءً على طلب القذافي، إذ أرسل إليه السبت قبل الماضي طائرة خاصة أقلته من مطار العلمين على الساحل الشمالي المصري إلى طرابلس بهدف مُعلَن هو تطوير الجامعة. ومع الأستاذ هيكل، وبناءً على طلبه، سافرت برفقته إلى حيث التقى القذافي في "بيت العزيزية" مقر القيادة الليبية.هيكل الشاهد الأول على أحداث "الثورة الليبية"، وأول مَن التقى قائدَها بتكليف من الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وتابع أحوالها وتحولاتها، وله رؤى وانتقادات لها مُذاعة ومنشورة.
الزعيم الليبي هو رئيس الدورة الحالية للقمة العربية، وهناك قمتان في الخريف سيترأسهما، ولديه تصورات واقتراحات لتطوير الجامعة، قال لهيكل هاتفياً إنه يريد أن يحاوره فيها ويستمع منه حولها، غير أن هيكل ظل يتساءل عن أسباب الدعوة الرئاسية الليبية لزيارتها في هذا التوقيت، ولم تكن لديه إجابة يقينية، ولكنه كان يدرك أن طبيعة شخصية القذافي تسمح بأن تظل كل السيناريوهات والاحتمالات مفتوحة.هيكل على متن الطائرة قرأ خبراً عاجلاً يتعلق بليبيا، فقد أعلنت وزارتا الخارجية في واشنطن ولندن أن شركة "بي بي" قد استخدمت نفوذها لدى أسكتلندا للإفراج عن المتهم الليبي في قضية لوكربي عبدالباسط المقراحي، في صفقة وقّعت بمقتضاها ليبيا عقودَ تنقيب عن البترول مع الشركة البريطانية العملاقة.كانت المفاجأة أنه عندما سألت العقيد القذافي عما نُشِر عن صفقة الإفراج عن المقراحي، بدا أنه يستمع إلى هذه الأنباء للمرة الأولى، وأخذ الأستاذ هيكل يشرح باستفاضة تفاصيل الأخبار التي طالعها.وفي ما يبدو أن معاوني العقيد الليبي لم ينقلوا إليه ما بثته وكالات الأنباء، فقد كانت عنده اجتماعات إفريقية بدت أمامهم أكثر أهمية وإلحاحاً، وبإجابة مقتضبة قال القذافي: "نحن جاهزون"، قاصداً جاهزون لمواجهة أي احتمالات لموجة تحرش جديدة بليبيا. كانت الرحلة إلى طرابلس في جوانبها الرئيسية أقرب إلى زيارة في التاريخ وإليه، فقد تطرق هيكل في برنامج "سيرة حياة" على محطة "الجزيرة" الفضائية القطرية إلى وقائع "الثورة الليبية" في سياق الصراع الاستراتيجي والعسكري الضاري على المنطقة أثناء حرب الاستنزاف. بدا هيكل معتقداً أن تلك الثورة في توقيتها (سبتمبر 1969)، وفي سياق صراعات المنطقة وعليها، وبانحياز قيادتها الشابة وقتها إلى عبدالناصر وثورته ومشروعه، تحول استراتيجي له أهميته في الصراع، وله حساباته الجديدة في الأجندات المختلفة، وله تداعياته على موازين القوى في البحر المتوسط.وأخذ يروي بوثائق جديدة دلالات ما جرى بعد "ثورة الفاتح" في الصراع على المنطقة وفي الحسابات الدولية، غير أنه في الوقت ذاته أبدى انتقادات جوهرية لسياسات وتصرفات وتصريحات الزعيم الليبي.والمثير أن القذافي أخذته ذكريات الأيام الأولى إلى مناطق دافئة ومشتركة مع هيكل، وكان مستعداً لأبعد حد أن يغض الطرف عن انتقادات الأخير اللاذعة، وبعضها بُثّ على محطة "الجزيرة" قبل الزيارة بساعات!كانت لدى القذافي شواغله، فقد كانت "قمة تشاد" الإفريقية توشك أن تلتئم بعد أيام قليلة، وقضية ملاحقة الرئيس السوداني عمر البشير تأخذ منحىً جديداً وخطيراً بإسناد تهمة الإبادة الجماعية في دارفور إليه، وتشاد دولة موقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وبدا في اجتماعات طرابلس التمهيدية أن ثمة تباينات واختلافات ظاهرة بين قادة أفارقة في معالجة هذا الملف.وفي ما يبدو، من سياق الأحداث، فإن القيادة الليبية عملت على ضمان نوع من الدعم السياسي والقانوني للرئيس السوداني، ورغم هذه الشواغل فإن القذافي حرص على اختصار الاجتماع الصاخب، حتى يتسنى له وقت أطول لاجتماع آخر من نوع مختلف مع هيكل.ذكريات التاريخ غلبت على أجواء اللقاء، ولكن كان عند القذافي أسئلة في الحاضر تشغله، ويريد أن يستمع إلى إجابات عنها من "الأستاذ"، فهو رئيس القمة العربية الحالية، ولديه أفكار وتصورات، ولكنه لم يُسهِب فيها، كان شبه يائس من أي إصلاح في بنية الجامعة العربية، وكانت أحوال العالم العربي أمامه داعية إلى مزيد من هذا اليأس، وكانت لديه أسئلة من نوع مختلف حول مستقبل النظم العربية في المنطقة، وليبيا نفسها لديها مشاكلها مع هذا المستقبل.والحوار كله لم يكن للنشر، فهو ملك الرجلين، وقد كنت شاهداً مؤتمناً عليه، ولكن الأجواء تبدت فيها، رغم التناقض مع الحاضر، أو ربما بسبب هذا التناقض، صورة جمال عبدالناصر حاضرة وقوية، فهو "الريس"، كما وصفه القذافي أكثر من مرة في معرض الحوار.