الإمارات ما بعد الأزمة المالية العالمية

نشر في 29-09-2009
آخر تحديث 29-09-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله أكد الاجتماع الثالث لدولة مجموعة العشرين التي تمثل 90% من إجمالي الناتج القومي العالمي، والذي عقد خلال الأسبوع الماضي في مدينة «بيتسبرغ» الأميركية، أن أسوأ ركود اقتصادي يعيشه العالم منذ 70 سنة يوشك على الانتهاء، وأن الاقتصاد العالمي ابتعد عن الهاوية ويتجه مجددا نحو فترة من النمو، وأن المهمة الرئيسة أمام الدول دعم هذا الانتعاش خلال عام 2010.

لكن بعد مرور سنة على أخطر أزمة مالية عالمية، من المهم إجراء حساب دقيق للفوائد والخسائر، والتفكير في الدروس والعبر، وطرح الأسئلة حول انعكاسات هذه الأزمة على الإمارات؟ فما الذي حدث للإمارات خلال سنة من الركود الاقتصادي العالمي؟ هل خرجت الإمارات أحسن حالا أم أسوأ حالا؟ وهل الإمارات ما قبل الأزمة نفسها الإمارات ما بعد الأزمة؟

جميع الأرقام والبيانات تشير إلى أن سنة 2008 كانت سنة صعبة، وتؤكد أن الإمارات تأثرت سلبا بالأزمة المالية العالمية، فالأسواق والمصارف والواردات كما الصادرات تأثرت بل تضررت. كما توقفت وتأجلت مشاريع عمرانية عملاقة بسبب هذه الأزمة، وانكمش النمو في الإمارات من 7.4% إلى نمو سالب لأول مرة منذ أكثر من عقد، وتراجعت العائدات النفطية إلى النصف بعد هبوط معدل سعر النفط من 114 دولارا عام 2008 إلى 59 دولاراً هذا العام، أما أسواق الأسهم المحلية، التي أخذت تستعيد بعضا من نشاطها، فقد هبطت بنسبة 70% في دبي وبنسبة 45% في أبوظبي، وعلى الرغم من الانتعاش النسبي لم يستعد الاقتصاد الوطني كامل عافيته ولياقته وتوازنه بعد.

لقد عاشت الإمارات الأزمة وتأثرت بكل أبعادها، وكان تأثيرها على الاقتصاد أعمق وأوضح من غيرها من الاقتصادات في المنطقة. من الطبيعي أن تكون الإمارات من بين أكثر الدول الخليجية والعربية تأثرا بالأزمة المالية العالمية بحكم أن اقتصاد الإمارات هو الأكثر عولمة وانفتاحا على النظام المالي والتجاري والاقتصادي العالمي، فاستثمارات الإمارات وشركاتها وقطاعاتها الإنتاجية ومطاراتها وموانئها ومدنها الصغيرة والكبيرة هي الأكثر ارتباطا بالعالم الخارجي. حضور العالم في الإمارات ضخم وحضور الإمارات في العالم أضخم، لذلك كان من الطبيعي أن تتأثر الإمارات أكثر من غيرها.

لكن انعكاسات الأزمة على عمقها جاءت متفاوتة، لقد أثرت الأزمة على البعض في الإمارات أكثر من البعض الآخر، والمؤكد أن قطاع العقار الذي شهد نمواً انفجاريا واستقطب أكثر قدر من الاستثمار الإقليمي كما العالمي خلال العقد الماضي تضرر بالأزمة سلبا أكثر من غيره من القطاعات، كما تعرض القطاع المصرفي لجلطة، ومازال يعاني أزمة سيولة ويحتاج إلى إعادة هيكلة. وانكشفت شركات ضخمة وأعلنت أخرى ديونا أضخم، وبحكم التركيبة الاتحادية الفريدة تأثرت بعض إمارات الدولة بوضوح أكثر، وتضررت بعض المدن بعمق أكبر من غيرها التي ظلت متماسكة وخرجت بأقل قدر من الأضرار.

وعلى الرغم من عمقها ووضوحها لم يكن تأثير أخطر أزمة مالية عالمية على الإمارات قاتلا. كان وقع الأزمة في العموم قويا لكنه لم يكن مميتا، وكانت الانعكاسات ملموسة لكن لم تكن كارثية.

كان نموذج الإمارات التنموي وبالأخص نموذج دبي الاقتصادي على المحك خلال الأزمة أكثر من أي شيء آخر. جاءت الأزمة كامتحان عسير لهذا النموذج القائم على مسلمات كالتنوع الاقتصادي، والتركيز على القطاع السياحي، والإسراع في البناء العقاري، والدفع نحو النمو السريع والفائق السرعة، والالتزام بمبدأ التجارة الحرة، والانفتاح على العولمة. لقد تعرض هذا النموذج لعاصفة قوية وأصيب بخدوش لكنه لم ينهر. سقطت أوراق كثيرة وتكسرت أغصان عديدة لكن الشجرة ظلت صامدة، واعتمادا على زاوية الرؤية، من حق البعض أن يرى الشجرة وقد أصبحت مكشوفة وعارية ومهزوزة، ومن حق البعض الآخر أن يراها متجذرة وواثقة من نفسها بعد أن تجاوزت أكبر وأخطر التحديات.

المؤكد الوحيد أنه لم تكن هناك فقاعة، ولم تتحقق التوقعات المتشائمة والمغالية في التشاؤم بخصوص مستقبل النموذج التنموي في الإمارات، لكن هذا النموذج تعرض أكثر من غيره لسلسلة من التشكيك والشائعات والأكاذيب، وكان هدفا لأسهم سامة ومغرضة انطلقت من اليمين واليسار، ومن القريب والبعيد. وحاول البعض أن ينال من نموذج الإمارات ومدنها وشركاتها ومشاريعها وشخصياتها القيادية. لكن النموذج أثبت صلاحيته وهو على وشك أن يستأنف المسار من جديد كطائر الفينيق الذي يعود للحياة أكثر قوة.

بالأمس بدأ العمل في مترو دبي، وغدا سيتم الاحتفال في أبوظبي ببدء سباق الفورمولا، وقريبا جدا سيتم افتتاح برج دبي. تؤكد هذه المشاريع العملاقة حيوية نموذج دبي والإمارات الذي تعرض لقسوة ما بعدها قسوة من قبل الوسط الإعلامي الأجنبي الذي كان متجنيا وتعمد الإثارة والإساءة انتقاما وجهلا وحسدا.

كل ذلك لا يعني أن المسار كان سلسا، لقد ارتكبت أخطاء، وحدثت تجاوزات، وبرزت سلبيات. من المهم الاعترف بالأخطاء ودراسة التجاوزات والكشف عن السلبيات، والمطلوب في المرحلة المقبلة تحقيق توازن أكبر بين المحلي والعالمي، وعدم الاندفاع إلى الخارج على حساب الداخل. لقد اتضح أن الانكشاف الكبير على الخارج هو أكبر الأخطاء.

ومن المهم أيضا الاعتراف بصراحة أن التعامل مع الأزمة في مرحلته الأولى كان بطيئا ومترددا ولم يستوعب خطورة الأزمة، كذلك لا يمكن في ظل الأزمات العمل بعقلية التنافس بين الإمارات، فنحن جميعا في قارب واحد هو قارب الاتحاد، والأزمة كانت تتطلب قدرا أكبر من التكامل وليس التنافس والمرحلة هي للتكامل الاتحادي وليس انغماسا في المحلي، كذلك اتضح أن الثقة قد وضعت في من لا يستحقها. إن أهم درس يمكن الخروج به من الأزمة هو درس العمل المؤسسي والابتعاد عن العمل الفردي المسؤول عن الأخطاء والتجاوزات والسلبيات.

لكن من المهم الآن تشكيل لجنة وطنية اتحادية للتحقيق في الأزمة وانعكاساتها وتقدم إجابات شافية ووافية للسؤال حول الأرباح والخسائر والدروس والعبر، وهل المطلوب إجراء تعديلات شكلية وجذرية على النموذج التنموي أم الإبقاء على نفس النهج الاقتصادي الذي كان سائدا وكأن الأزمة مجرد زوبعة في فنجان؟ كل الدول الحية قامت بتشكيل مثل هذه اللجنة من أجل تجنب أزمات أخرى، وتفادي الأخطاء، وتجاوز السلبيات وإن تطلب الأمر محاسبة من يستحق المحاسبة.

* باحث وأكاديمي إماراتي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top