عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار... التوتّر في إيران ينبئ بانفجار كبير

نشر في 16-09-2009 | 00:00
آخر تحديث 16-09-2009 | 00:00
غادر عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار وطنه عام 1978. عمل أستاذاً وباحثاً في علم الاجتماع في جامعة لندن، ومحاضراً في جامعة ميتروبوليتين في لندن، ومنذ عام 1994 قاد مجموعة «بحث المنتدى الثقافي العراقي» في كلية بيركبيك. كذلك كان مديراً للبحث والنشر في «مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي» في نيقوسيا وبيروت (1983- 1990)، وهو متخصص في دراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، ويشغل اليوم منصب مدير مركز الدراسات العراقية في بيروت.

تتناول أعمال عبد الجبار: الدين، دور القانون، الصراع الديني والمجتمع المدني، وأبرز كتبه: «الدولة والمجتمع المدني في العراق، الديمقراطية المستحيلة - حالة العرق، معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي، المادية والفكر الديني المعاصر، بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي (أبحاث أولية)، فرضيات حول الاشتراكية، المقدمات الكلاسيكية لنظرية الاغتراب». ومن ترجماته: «الاقتصاد السياسي للتخلف، موجز رأس المال، رأس المال، نتائج عملية الإنتاج المباشرة».

حول الإسلام والديمقراطية ومستقبل الأخيرة في العراق وقضايا أخرى كان الحوار التالي.

هل تجد تناقضاً بين الإسلام والديمقراطية بمعناها الغربي؟

تتناقض الديمقراطية مع أي دين في العالم، سواء الإسلام أو المسيحية أو البوذية أو اليهودية، لأن الأديان في معظمها ظهرت عندما كانت المجتمعات لا تزال أولية، إذ كانت المدن جديدة وقبلية، والتنظيم الاجتماعي قائماً على القرابة والعشائر والقبائل والأفخاذ، والإنتاج بسيطاً وحرفياً وزراعياً يعتمد على تجارة المسافات البعيدة، وهذا المجتمع يختلف عن تنظيم المجتمع المعاصر.

«القيم السياسية» المستمدة من الأديان كلها وليس الإسلام فحسب، ليس لها علاقة بالديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد. مثلاً، من منظار الدين الجماعة البشرية هي «أمة المؤمنين»، «أمة المسليمن»، «أمة المسيحيين»، و{أمة اليهود»، وفي المجتمع الإنكليزي كانوا يسمون المسيحيين «عالم المسيحية»، وفي الإسلام ثمة ما يُدعى «دار السلام» و{دار الحرب»، هكذا كان التنظيم السياسي الاجتماعي إمبراطورياً. في الوقت الحاضر، بات التنظيم السياسي يستند إلى الدولة، وقد تغيرت أنماط الاقتصاد والعلاقات التجارية وحتى الاجتماعية، كذلك تبدلت العلاقة بين المواطن والدولة بين الحاكم والمحكوم، بالتالي أصبحت القيم السياسية على مسافة بعيدة من الأديان كلها.

عموماً، لا علاقة للإسلام بالديمقراطية، ويختلف عنها جذرياً لأسباب عدة، أبرزها:

1 - الجماعة البشرية في الإسلام هي أمة المسلمين، وفي زمن الدولة الحديثة نتحدث عن الأمة العراقية والسعودية والمصرية والتونسية والمغربية.

2 - التشريعات في أنظمة الدول والديمقراطيات بشرية، أما الأديان عموماً والإسلام خصوصاً، فتعتبر أن الله المشرّع الأوحد والوحيد وترفع شعار لا حكم إلا لله.

3 - تقوم فكرة الدولة الحديثة على أن أي مواطن يتساوى مع الآخر، سواء كان مسيحياً أو مسلماً أو درزياً أو شيعياً، الكل مواطنون وينطبق عليهم القانون نفسه وهو «القانون الوضعي» أي قانون الدولة الوطنية، وفي التقاليد والأعراف الإسلامية والفقه القديم الأصلي يعتبر غير المسلم في الدولة الإسلامية ذمياً، ومفهوم الذمة يختلف مع مفهوم المواطنية جذرياً.

4 - لا يوجد في الأديان ما اسمه برلمان للتشريع، أو يجيز للبشر أن يشرعوا من خلال مجلس النواب.

أحدثت هذه الأمور صداماً بين ممثلي الدين بتفسيره القديم والأصلي، وبين تقاليد الدولة الحديثة وقوانينها، هذا الصدام حصل في العالم كله، في أوروبا بين المسيحية والدولة الحديثة، فالكنيسة وقادتها عارضوا التخلي عن الحكم باعتباره حكماً إلهياً، وحصلت ثورات كالثورة الفرنسية وغيرها ساهمت في فصل الكنيسة عن الدولة وترسيخ العلمانية وكان الثمن غالياً للوصول الى هذا المسار.

نحن في العالم الإسلامي لا نزال نعيش في معمعمة إدخال الدين في السياسية. ثمة فريق يقول إننا في عصر جديد وعلينا التكيف مع الديمقراطية وتداعياتها وأطرها السياسية، فيما يعتبر فريق آخر أن الديمقراطية تخالف الإسلام في الجوهر.

المسلمون أنفسهم منقسمون مثلما انقسم المسيحون سابقاً حول الديمقراطية والدولة. بالتالي أصبح لدينا فريق يتمسّك بالأفكار القديمة وتأويلاتها وهو قطعاً ضد الديمقراطية، فلسفة أو ممارسة، وفريق يسعى الى مواكبة العصر. على أن الديمقراطية تتضمن جانبين، الأول: تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أي أنّ ينتخب المحكوم الحاكم ويجدد له التفويض كل أربع سنوات من خلال التصويت باعتباره موظفاً لدى الجماعة، لكن ليس بالمسدسات والعنف والانقلاب، بل من خلال النقاش والحوار، وأن يخضع الجميع للقانون بما في ذلك الحاكم، ويتبع ذلك حرية الرأي والإعلام والتعبير والتنظيم السياسي... هذه هي الديمقراطية في جانبها التقني والآلي.

في جانبها الفلسفي، تعتبر الديمقراطية أن كل إنسان حر، أن الحاكم شيء غير مقدس، وهو إنسان عادي لا يمكن أن يحكم بتفويض إلهي، على أساس أنه يتحدّر من نسب شريف علوي أو حسيني أو هاشمي أو سلالة قبلية مقدسة. هذه هي الفلسفة الليبرالية الحديثة التي تقوم على حرية الإنسان.

ثمة من لا يحب الليبرالية كفلسفة، لكنه يتقبل الديمقراطية كآليات. مثلاً، إشارات المرور، نعلم أن الحمراء منها تعني الوقوف والخضراء الانطلاق والأصفر بين بين، وراء هذه الإشارات فلسفة، تسمى فلسفة تنظيم المدن، قد لا يحبها المرء، لكنه يطبقها. للأسف، ثمة تنظيمات إسلامية كثيرة متطرفة ترفض الإشارات والقانون والفلسفة والتشريع، وهي تنتمي الى العصر الحجري ولا مستقبل لها، حتى وإن كانت قوية وتتمتع بنفوذ واسع، لأنها مصابة بعصاب الانغلاق والتقوقع ومصيرها الزوال.

إذا اجريت عمليات إصلاح أو «تجميل» بالمعنى المجازي للإسلام، هل يصبح ديمقراطياً؟

لجأ بعض المفكرين المسلمين إلى وضع نصوص في الإصلاح، فأعاد تأويل الإسلام ونصوصه، وهذه العملية بدأت في نهاية القرن التاسع عشر أيام جلال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، والمفكر الإصلاحي خير الدين التونسي، إضافة إلى المفكر الهندي غير المعروف، وهو أحد أكبر الإصلاحيين، شاه ولي الله... هؤلاء كلهم قالوا إن الإسلام يتفق مع العلم والديمقراطية والحداثة والعصرنة، وقدموا تأويلات نصية وإصلاحية رفضتها غالبية فقهاء المسلمين بشدة، لكن المجتمع لم يخذلهم.

ماذا قال هؤلاء الإصلاحيون المسلمون؟

اعتبروا أن الديمقراطية هي على مبدأ الشورى، «أهل الحل والعقد» لدينا مثل البرلمان في أوروبا، نوع من المجالس تضم أهم التجار والفلاسفة والعلماء للتشاور في القضايا المهمة وإصدار الحلول الملائمة.

قال الإصلاحيون إن هذا مثل البرلمان، واعتبروا أن الغرب يطبق الديمقراطية ونحن نقصر في ذلك، هذا تأويل بالطبع مفيد لمصلحة الديمقراطية، لكن حتى الآن ما زالت التنظيمات المتطرفة وهي كثيرة تعتبر الديمقراطية كفراً، والمساواة بين المسلم والمسيحي كفراً، فهي تتمسك بتصنيف الآخرين ضمن أهل الذمة، وتحرّم وجود المرأة كمشرع، بل وتكفرها.

هذه التنظيمات المتطرفة عاهة كبيرة ترفض مشاركة المرأة في العمل السياسي وتعتبر أن مكانها الأوحد البيت والجلوس بين أربعة جدران. تمارس هذه التنظيمات ذكورية قديمة، وتشوّه الإيجابيات في الإسلام، وعلى هذا المسلمون منقسمون من خلال التأويلات، بالتالي أصبح الإسلام منقسماً.

النص الإسلامي تحديداً، هل يصبح حديثاً من خلال «التجميل»؟

عبر التأويل يمكن ذلك، لنقل إنه في الجانب الشيعي حصل تحول ما من خلال ولاية الفقيه التي تعني حكم رجال الدين.

لكن في إيران ثمة ما يسمى «الحكم الإلهي»؟

الحكم المطلق يكون إما على الدين أو على التراث، والحاكم المطلق لا يحاسب. الديكتاتور العسكري لا يختلف عن الولي الفقيه، الحاكم الذي يتحدر من قبيلة يفعل الفعل نفسه. مثلاً، إدريس السنوسي في ليبيا قبل أن يصبح ملكاً كان رئيس فرقة صوفية، كان يتوسط بين القبائل وأصبح ملكاً و{مقدساً». بالتالي القداسة لا تأتي من الدين فحسب، بل من التراث أيضاً.

بعد سقوط نظام صدام حسين، هل تجد مستقبلاً للديمقراطية عبر اللليبراليين أو المسلمين في العراق، وكيف تقرأ تصدير الديمقراطية الغربية إلى العراق، هل ثمة أمل منها؟

نشوء الديمقراطية لا يتعلق بحكم الليبراليين أو الإسلاميين أو غيرهم، لماذا؟ الليبراليون ديمقراطيون إذا وصلوا الى الحكم لا يلتصقون بالكرسي، هم يمارسون الديمقراطية في الحكم، أما الإسلاميون في العراق فينقسمون إلى فريقين، ينادي الأول بالديمقراطية، والثاني بـ{ولاية الفقيه» ذات البعد الديكتاتوري.

لحسن الحظ دعاة ولاية الفقيه والحكم الاسلامي قلّة، هذا عامل مساعد، يمنع الانزلاق نحو الديكتاتورية في العراق كما في السابق. على أن العامل الأهم أن الديمقراطية تعني الحكم بالرضا، والحاكم عندما لا يستطيع فرض نفسه على الآخرين، والحصول على قبولهم، لا يقدر أن يحكم بالمطلق.

الانقسام السياسي والأثني والديني في العراق يمنع أي فريق من التحكم في البلد، لأن العراق منقسم إلى عرب وأكراد وسنة وشيعة وتركمان، ولا يتوافر حاكم يستطيع تمثيلهم جميعاً.

هذا العجز في ذاته يمنع نشوء الديكتاتورية، لكنه في الوقت نفسه يؤثر سلباً على نشوء الديمقراطية التي هي ليست انتخابات فحسب، بل نمط عيش وتفكير، وهكذا العراق في طريقه الى ديمقراطية بمعناها السلبي أي أن الجماعات تتقاسم السلطة، وتصبح مظاهر الديمقراطية مقبولة رغماً عن الحكم، ليس كآلية يؤمن بها الحاكم.

عموماً، على رغم الحكم الإلهي في إيران، اعتاد الناس على الانتخابات، لم يستطع الخميني التفرد بالسلطة، بل كان إلى جانبه سبعة قادة يسمون آيات الله العظام عارضوه في التفرد، فلجأ الى الانتخابات، وبات كل شيء يتم من خلالها، من رئيس الجمهورية إلى البلديات، ما عدا «المرشد الأعلى للثورة الإسلامية» يختاره مجلس خبراء، لذلك في إيران الانتخابات مقدسة كوسيلة للتعبير عن «حرية الأمة» من جهة، لكن ثمة خرق لهذه الانتخابات كما حصل أخيراً من جهة أخرى، وأدى ذلك إلى تظاهرات وصدامات، وهذا التوتر سيبقى في الشارع الإيراني إلى أن ينفجر مستقبلاً انفجاراً هائلاً.

لنقل الانتخابات أصبحت مقدسة في إيران، ليس من وسيلة أخرى غيرها، وهذا لم يتم في العراق الى الآن.

يحتاج العراق إلى الديمقراطية لبناء الدولة الحديثة وهذا يتطلب وقتاً وثقافة، إذا سافرت الى أي بلد غربي، تلاحظ أن أي عمل يتم من خلال الانتخابات، نحن ليس لدينا هذه الأمور في ثقافتا العربية الإسلامية، وتكريس الديمقراطية غير موجود إلا في بلد واحد هو لبنان. نقول إن الديمقراطية ضعيفة بسبب التدخلات الخارجية، لكن في خضم الحرب الأهلية كان ثمة دور لرئيس جمهورية وحصلت انتخابات رئاسة، وتحصل انتخابات برلمانية كل أربع سنوات.

ثمة من يقول إن الانتخابات الأخيرة في العراق كانت إيجابية؟

جرّت في العراق انتخابات عدة، عدا عن الاستفتاءات، هذه أمور لم يعتد عليها العراقيون منذ عقود، فجيل الشباب، عندما يصبح في الخمسين، تصبح ذاكرته مع أولاده برلمانية وانتخابية وليس انقلابية وديكتاتورية، يعتاد الناس على حكم يأتي بالتصويت ويخرج بالتصويت وليس بالمسدسات ولا بالقتل أو التزوير.

من نصوصه عن الدين والسياسة

في العراق يبدو الدين والسياسة ظاهراً في وئام. فالدولة تحتفظ بلفظ الجلالة (الله اكبر) على العلم العراقي، والبسملة تتصدر الكتب الرسمية، والعمائم ظاهرة في البرلمان، والميليشيات الدينية تتبارى في غلق محلات بيع الاشرطة الغنائية، وتبزّ بعضها بعضاً في فرض الحجاب، ومنع الاختلاط في الحرم الجامعي، او في الحياة العامة، وغلق محلات تصفيف الشعر للنساء، او بوتيكات الازياء ومواد التجميل، علاوة على طرد الشيطان الجديد، الانترنت (الذي تحرمه بعض الفتاوى)، او الساتلايت.

هذا التواؤم بين المقدس والمدنس، بين الدين والدولة، بدأ في عهد الديكتاتور، بصيغة حملات «ايمانية»، بدأت ايقاعها بفرض الحجاب على الرفيقات، وفتح دورات حزبية في الفقه، واجتذاب بعض المقامات الدينية، واغداق المال على الطرق الصوفية، والمراقد المقدسة.

تباهى لي متصوف بأن المقام الفلاني الرسمي هو من مريديه، وقد ابتنى له ولطريقته «تكايا» (ما يسميه اخوتنا المغاربة: الزوايا)

اكتشفت التوتاليتارية سحر اعادة السحر للعالم لاخفاء بؤسها الدنيوي. وراحت تزيد من ابتناء الجوامع والمساجد لشعب يخلع ابواب داره ويبيعها في المزاد ليدرأ غائلة الجوع.

في هذه الفترة ظهرت الجوامع الرئاسية، التي يتصارع عليها اليوم الورعون من الاحزاب والجماعات الاسلامية صراعا مفعماً بالتقى المحتدم الى حد الذبح.

عمدت التوتاليتارية الى تسييس الدين، فعمقت، بوعي او بدونه، تسييس الفوارق المذهبية. اما اليوم فان هذا التسييس صار مسلحاً (منذ 2003).

حصل انقلاب في الحامل والمحمول. كانت الدولة تجاهد لاخضاع الدين، عقائد ومؤسسات. صار الدين اليوم، عقائد ومؤسسات ايضاً، يجاهد لاخضاع الدولة، واستخدام جبروتها لفرض ما يراد فرضه.

لكن الدين يواجه اليوم محنة وابتلاء، وهو حال لا يقتصر على العراق وحده. فالدين منقسم مذهبياً، وهذا الانقسام المسيس والمسلح تحول من حرب بين الاحزاب الى حرب بين المذاهب، الى حرب الجوامع.

وقد فزعت حقا وأنا أطالع تقارير دوائر الاوقاف الاسلامية في العراق، التي كانت قبلئذ وزارة بيروقراطية من وزارات الدولة، وصارت اليوم مؤسسة شبه مستقلة، موزعة على الاديان والمذاهب.

هناك مائة وثمانية جوامع تعرضت للاعتداء، وهو تعبير تقني يشمل الهجوم بالاسلحة النارية، والقذائف الصاروخية، ومدافع الهاون، او القنابل اليدوية.

بعض الجوامع والمساجد كان قد تحول الى مستودعات سلاح، لكن الكثرة صانت طابعها المقدس بوصفها موئلاً للتعبد، والتأمل الروحي، والتطهر الاخلاقي.

اما قائمة الجوامع والمساجد المدمرة فتضم ثلاثة وخمسين. ويفيد مصطلح التدمير هنا اما التفجير التام، او الحرق التام، او التدمير الجزئي، الذي يحيل هذا المسجد او ذاك الجامع الى كومة حجارة. وفي بغداد وحدها هناك ايضاً سبعة وخمسون جامعاً مغلقاً في منطقة الكرخ وستة واربعون جامعاً مغلقاً في منطقة الرصافة.

ويفيد مصطلح الغلق حالات شتى منها احتلال المسجد من جماعة مسلحة او تحويله الى ثكنة.

يحصل هذا في ظل حكومة يعتنق قادتها الاكثر نفوذا في الحكومة والبرلمان فكرة الدولة الاسلامية وتطبيق الشريعة. ولو اضفنا الى هذا لوائح رجال الدين القتلى غيلة، من فقهاء، واساتذة حديث وتفسير، ووكلاء مرجعيات دينية، لوصلنا الى حالة لا توصف الا بانها ارهاب شامل، لدور العبادة، ولرجال الدين، ولعامة الناس، باسم الدين.

ووصل اضطهاد الدين على يد الدولة الدينية الورعة مديات تفوق ما كانت تمارسه التوتاليتارية باشواط، على بشاعة هذه الممارسة، التي لا يمكن تسويغها باي حال. غير ان النقد الاكبر المنصب على النظم العلمانية، توتاليتارية او عسكرية، لتجاوزها على حدود الدين، يصح بالدرجة نفسها، على النظم التي ترفض العلمانية.

والمشترك بين الاثنين كثير: اوله غياب القواعد المدنية في احترام العقائد، واحترام مؤسساتها، وشخوصها، وثانيه التدمير المنظم، الخفي او المعلن، لهذه المؤسسات والشخوص، وثالثه السعي الى الاستخدام المتبادل للمدنس والمقدس (استخدام الدولة للدين، او العكس استخدام الدين للدولة) تحقيقاً لمآرب وغايات دنيوية: الصراع على موقع الدولة، ومواردها، وممتلكاتها وادواتها. هناك ما يشبه الاجماع على ان دور العبادة، وبالتحديد المساجد والجوامع، هي وقف لعامة المسلمين، اي ملك للجماعة، يخرج عن سلطة وارادة مشيده. وقد تحول هذا الفهم الى قاعدة ثابتة منذ العصر العباسي. وتذكر الدراسات التاريخية ان السلاجقة ارادوا نشر المذهب الشافعي دون غيره، فابتكروا «المدرسة» لتدريس هذا المذهب دون سواه، نظراً لان حكر الجوامع على مذهب واحد كان محالا باعتبار الجامع وقفاً للمسلمين وليس وقفاً خاصا لمنشئه وبانيه.

والصراع الدائر حول الجوامع وفيها، انما ينبئ بان الايديولوجيات الاسلامية لا تقل شراسة عن الايديولوجيات الدنيوية في انتهاك المقدس، بل بالاحرى تفوقها شراسة. ويشي هذا بدوره بأن المشكلة عند الاثنين هي غياب فكرة القانون المدني بمعناه الشامل، وحلول فكرة ارادة القوة. وهذا الصراع بين الحق (القانون) والقوة (الارادة السافرة غير المقيدة) هو ما يميز المجتمعات اللامدنية، الخالية من فكرة الدولة، او مجتمعات الدولة المستبدة الخالية من القانون.

كل الحضارات قامت بنقلة كبرى يوم حولت الاعراف والتقاليد والشرائع المقدسة الى مدونات قانونية لا شخصية. في حضارتنا ما يزال هذا التدوين شخصياً يخضع لتأويلات وارادة مفسره. نكون محظوظين حين نحظى بمفسّر منزه عن الهوى. ويجانبنا الحظ حين نواجه كثرة كاثرة تدلي بدلوها في تأويلات متضاربة، تلغي فكرة القانون، وتلغي مبدأ الدولة.

وما العدوان على المراقد والجوامع والفقهاء والعلماء سوى واحد من تجليات هذا الالغاء المزدوج. ولكيما يكف الاسلام السياسي المسلح، المتمذهب عن التشبه بالايديولوجيات الالغائية، يتعين عليه ان يخلع ثوب اللاقانون سريعاً، وبخلافه سيصل الى مآل من سبقوه. والله اعلم.

back to top