دعا إلى مراجعة تعليم الفلسفة في وزارة التربية الباحث أحمد العنزي: حركة النهضة العربيّة لم تأت بجديد
أحمد عقلة العنزي أحد الباحثين الجادين من جيل الشباب، حصل على شهادة الماجستير من جامعة فرونش كونتيه- فرنسا، وقدّم أخيراً أطروحة الدكتوراه في الفلسفة الأوروبية المعاصرة في جامعة فانسين في باريس 8 – فرنسا. في حديثه إلى {الجريدة} يفنّد كثيراً من الأفكار الخاطئة في ثقافتنا العربية، كالقول إن الفلسفة مقولات مجردة تعيش في برج عاجي، مؤكداً أن حقبة النهضة العربية لم تأت بشيء جديد، كذلك يدعو إلى إصلاح منهج الفلسفة في مدارس وزارة التربية، وله رأيه في هذا المجال المختلف عن نصر حامد أبو زيد. إليكم نص الحوار.
كيف تصبح الفلسفة مهنية؟عندما يُصاب أحدهم بوعكة صحية أول ما يتبادر إلى ذهنه الطبيب أي المنقذ من هذه الوعكة، فالطبيب شخص مهني نتوقع منه أن يشخص لنا أمراضنا ويصف لنا العلاج. والفلسفة تصبح مهنية عندما نتوقع من الفيلسوف تحليل أمراضنا الفكرية والثقافية والعلمية وتشخيصها، ثم وصف العلاج. لكن للأسف موروثنا الفلسفي والأكاديمي حول الفلسفة لا يقول ذلك، بل يكرّس فكرة أن الفلسفة تأمل في برج عاجي بعيد عن الواقع. الحقيقة أن المحلل النفسي مثلاً استفاد من دراساته النفسية في ابتكار أدوات التحليل النفسي، لذلك يستطيع بأدواته تشخيص الانفصام والتفريق بين الوسواس العرضي والوسواس القهري وغيرها من مشاكل نفسيّة, أما الفيلسوف، خصوصاً العربي، فلم يستفد من الدروس الفلسفية لابتكار أدواته وآلياته الخاصة في التحليل الفلسفي، لذلك ما إن تُطرح مشكلة فكرية أو علمية يذهب الفلاسفة بك بعيداً عن العلم ويتحدثون عن المثل وما ينبغي أن يكون عليه الفكر الإنساني بطريقه طوباوية تشاؤمية. أما أن تصبح الفلسفة مهنية، فهذا يعني أنك أمام علم له جهازه المفاهيمي المستقل وأدواته في التحليل والتأويل. هنا قد نصف من يملك هذه الرؤية بالفيلسوف.ما هو تقييمك للخطاب الفلسفي العربي؟إسمح لي أن أعترض على كلمة تقييم، فأنا ما زلت على شطآن الفلسفة ولست مؤهلاً لتقييم أعمال فلاسفة عظام وفلسفاتهم, لكن إن أردت رأيي فأقول وبكل تواضع إن الخطاب الفلسفي العربي مرّ بمرحلتين، الأولى مرحلة إبداع وتألق في الإنتاج الفلسفي امتد تأثيرها إلى حياة الناس اليومية، وجاءت في القرون الأولى من التفلسف العربي التي امتدت من القرن التاسع الميلادي إلى أواخر الثالث عشر الميلادي، وهي مرحلة كبار الفلاسفة العرب والمسلمين كالكندي وابن رشد وابن خلدون. آنذاك كان الفلاسفة يشخصون واقعهم, صحيح أن الفلسفة كانت مرتبطة بمناقشة القضايا الدينية لكن هذا هو واقعهم, وهذه هي إشكالياتهم, وقد أنتجوا إرثاً فلسفياً معتبراً وقيماً، وما زلنا نكتشف أشياء جديدة في نتاجهم الفلسفي.وما هي المرحلة الثانية؟المرحلة الثانية من الخطاب الفلسفي العربي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي مرحلة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي والكواكبي، وتسمى اعتباطاً بحركة النهضة العربية، مع تحفظي على هذه التسمية.لماذا؟أعتقد بأن هذه الحقبة التي تسمى اعتباطا بحركة النهضة لم تأت بشيء جديد، فهي تمثل إعادة طرح لإشكاليات قديمة ناقشها الفلاسفة العرب والمسلمين الأوائل، من دون مراعاة أن تلك الحقبة انتهت ويجب تجاوزها. الأدهى من ذلك أن النهضويين كرّسوا أو أعادوا تكريس التخلّف والانحطاط الفلسفي، إذ شكّلوا لنا المناخ الفلسفي الذي نعيشه اليوم وأبرزوا إشكاليات لا تهمنا ولا تفيدنا عملياً، وجعلوا الخطاب الفلسفي العربي المعاصر يدور في هذا الفلك المصطنع. من ناحية أخرى، جعلوا التعليم الأكاديمي يتلقى الفلسفة من هذه المنابع التي حكمت على العقل العربي بالجمود والرجعية.هل تقصد أننا نفتقد إلى مشاريع فلسفية نهضوية؟{نهضوية} كلمة رنانة لا مضمون علمي لها. النهضة تعني الرقي، والأخير لا يحدث من دون علم ونظريات علمية، فأي نظريات علمية قدمها رفاعة الطهطاوي مثلاً؟ سيقول لك المتفلسفون إنه حرّر الفلسفة من سلطة الدين، لكن هل الفلسفة خاضعة فعلاً لسلطة الدين، وهل يمكن الحديث في هذا المجال عن سلطة خاضعة لسلطة؟ فالفلسفة هي بحد ذاتها سلطة أي سلطة علمية، مع تحفظي طبعاً على كلمة سلطة.بالمناسبة، هل تعتقد بأن الفلسفة تتعارض مع الدين؟التعارض بين الفلسفة والدين أو التوفيق بينهما مسألة اتفاقية، أي أنها طرحت بطريقة معينة وأخشى أن يكون وراءها دوافع وتكتيكات سلطوية لتغييب الفلسفة وإبعاد الناس عنها، لأن الفلسفة تملك ناصية العقل والأخير منهجها وطريقها, وهذا العقل لا يقبل شيئاً على أنه حق إن لم يكن كذلك كما يقول الفيلسوف ديكارت. ولو بحثت في أصول طرح مسألة العلاقة أو التعارض بين الفلسفة والدين ستجد أنها كانت بدوافع سياسية لأن الفلسفة في جانبها السياسي أو الفلسفة السياسية تبحث في أسس الحكم والسياسة ولا تعترف إلا بالحكم العاقل الذي سمّاه أفلاطون بالحاكم الحكيم، وهذا الطرح يتعارض بلا شك مع رؤى فئات وقوى اجتماعية وسياسية هدفها القفز على سدة الحكم، لذلك كان السبيل لهذه القوى أن تستبعد عن طريقها أي تفكير يتحدث عن العقل والحكمة ألا وهو الفلسفة فرفعوا شعار الدين, وأنت تعرف قرب الناس من الدين وتأثيره المباشر بهم, والفلسفة هي من دفع هذه الضريبة. عودة إلى المشاريع التي سميتها نهضوية، أقول إن هؤلاء المفكرين أعادوا إنتاج إشكاليات فلسفية كان التاريخ الفلسفي القديم يبحث بها وهي مرتبطة بالدين بطريقة جديدة وعصرية لا أكثر ولا أقل. اليوم، هل ثمة مشاريع فلسفية معاصرة؟نعم، لكنها ليست مشاريع بل محاولات, فثمة مفكرون أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وطه عبد الرحمن ومحمد الشيخ, وكل منهم أدلى بدلوه وقدم تحليله الفلسفي للواقع العربي، وهم مشكورون على ذلك طبعاً, لكني أعتقد بأن محاولاتهم تختلف عن محاولات النهضويين كما سميتهم. أين الاختلاف؟أولاً، مفكرو القرنين التاسع عشر والعشرين أعادوا طرح إشكاليات قديمة. ثانياً، الحقبة الفلسفية الراهنة تمثّل قطيعة إبستمولوجية معرفية مع سابقتها، لأن مفكري الفلسفة المعاصرة وجدوا أنفسهم أمام مناهج فلسفية جديدة لم يعهدها القدماء، واتصلوا بشكل مباشر مع الغرب، خصوصاً الأوروبيين الذين تعلموا منهم ومكنوهم من أدوات التحليل الفلسفي واستفادوا من المناهج الفلسفية المعاصرة كالوجودية والظاهراتية والبنيوية والتفكيكية والمنطقية الوضعية والتحليل النفسي والماركسية, فالجابري مثلاً وظّف في سلسلته {نقد العقل العربي} هذه المناهج كافة حتى أننا نجد أنفسنا وللمرة الأولى في تاريخنا الحديث أمام مشروع قد نسميه نسبياً {مشروعاً فلسفياً}, لأننا مع الجابري وكتابه {نقد العقل العربي} المترجم إلى لغات عدة نجد أنفسنا أمام نقاش فلسفي حقيقي وعلمي, وإن اختلفنا معه إلا أننا نستطيع مع ذلك أن نجد مساحة من الحوار الفلسفي العلمي حول توظيفه المناهج العلمية في قراءته للفلسفة والتراث العربي، وحول جدوى هذا التوظيف والنتائج التي توصل إليها.هل ثمة شروط للعالمية؟نعم, وهي أن تتحدث بلغة العلم، اللغة التي يفهمها جميع الناس على اختلاف مشاربهم.من هو الفيلسوف برأيك؟من هو على شاكلة فلاسفة عظام كنيتشه وهايدغر وغاستون باشلار وجورج كونغليم وميشيل فوكو وجيل دولوز ودريدا وغيرهم كثيرين. أثارت أفكار نصر حامد أبو زيد جدلا واسعاً، كيف تنظر إليها؟كتابات أبو زيد لافتة، لكنه مندفع وترى فيه تهور المراهقين، وقد تغيرت نظرتي إليه أخيراً عندما علّق على منعه من دخول الكويت فتلفظ بألفاظ نابية عن الكويت والسلطات الكويتية، وهذا لا يصدر عن فيلسوف إطلاقاً. كذلك لا أعرف ما هي القيمة العلمية المستفادة من قوله إن القرآن الكريم نتاج بشري! أعتقد بأنه يبحث عن الشهرة لا أكثر ولا أقل. ماذا عن عبد الرحمن بدوي؟أسطورة أُعطيت هالة أكبر من حجمها. كتب أكثر من 120 كتاباً، لكن معظمها مكرر وعلى طريقة {قص ولزق}. عبد الرحمن بدوي أب الكتابات الفلسفية السردية الإنشائية الروحي، وهذه الكتابات لا تتضمن أي قيمة علمية, كذلك له فضل الأولوية في ترجمة بعض النصوص، على رغم أن غالبية ترجماته تحتوي على أخطاء لا تغتفر.كيف ترى وضع الفلسفة في الكويت؟متواضع جداً للأسف. في الكويت مجلات علمية فلسفية كـ{عالم الفكر} و{عالم المعرفة}, وثمة مؤسسات تدرّس الفلسفة كجامعة الكويت، أما تعليم الفلسفة في المدارس، فسيئ جداً.كيف؟لا تجد التعليم الفلسفي الرصين إلا في جامعة الكويت، وشخصياً حصلت على البكالوريوس في الفلسفة من قسم الفلسفة في جامعة الكويت، وعلمني الفلسفة أساتذة أكن لهم الاحترام والتقدير، فبفضلهم أكملت مشواري العلمي في فرنسا. أذكر منهم أساتذتي إمام عبد الفتاح ومحمود سيد وعزت قرني وعبد الله الجسمي وأحمد الربعي وميشيل ميتياس وغانم... ولا أنسى زملائي في هذا القسم الذين تعلمت منهم أيضا الفلسفة.أما منهج الفلسفة المقرر في مدارس وزارة التربية فلا يمكن وصفه بكتاب فلسفة، لأنه خليط بين التاريخ والفلسفة وليس كتاباً علمياً نهائياً, وأدعو بالمناسبة إلى مراجعته ومراجعة تعليم الفلسفة عموماً, فنحن في الكويت ندرس الفلسفة أو ما يسمى بكتاب الفلسفة في الصف الثاني عشر الأدبي فحسب. والأجدر أن تدرس الفلسفة في الصفين الحادي عشر والثاني عشر في العلمي والأدبي أيضاً. الكل يعتقد بأن الفلسفة مادة أدبية، وهي ليست كذلك. فالفلسفة مادة علمية حالها حال الفيزياء, ومن الأفضل تدريسها بناءً على ذلك.هل ثمة جهود فلسفية في الكويت غير التي ذكرت؟تكاد لا تذكر، لكن قمنا بمحاولة مع زملائنا المتخصصين في الفلسفة تأسيس جمعية نفع عام هي الجمعية الفلسفية الكويتية، وقام الدكتور عبد الله الجسمي بجهود جبارة في هذا المجال وفي جمع الخريجين في الفلسفة والمهتمين بتأسيس هذا الكيان الذي للأسف لم يرَ النور إلى الآن. فطلب الإشهار ما زال في أدراج وزارة الشؤون، والكل ينتظر إشهار هذه الجمعية لتؤدي دورها الريادي في مجال الفكر والثقافة والفلسفة.