10 دروس نتعلّمها منه الانهيار الاقتصادي العالمي... بلغ مرحلة التعافي أم يزداد سوءًا؟

نشر في 30-05-2010 | 00:00
آخر تحديث 30-05-2010 | 00:00
يشبه الاقتصاد العالمي رجلاً سقيماً يعاني آلاماً في المعدة، ولا ينفك الشعور بالغثيان ينغّص حياته. في عام 2008، عانى الاقتصاد من مشكلة السندات المدعومة برهون عقارية وسقوط ليمان براذرز. وفي السنة الماضية، شهد أسوأ حالة ركود منذ ثلاثينيات القرن الماضي. أما هذه السنة، فكانت سنة الأزمة المالية الأوروبية بامتياز. نجهل ما يخبئه لنا المستقبل، لكن كثرت الأخبار الجيدة في الآونة الأخيرة. مثلاً، ترفع الجمعية الوطنية لاقتصادات الأعمال توقّعاتها بشأن النمو في الولايات المتحدة عام 2010. ولا تزال الصين قوية. فضلاً عن ذلك، سيرفع صندوق النقد الدولي توقعاته بشأن النمو في مختلف أنحاء العالم. في المقابل، تهافت بعض أذكى المستثمرين على شراء الذهب، بعدما كثر الحديث عن انهيار عالمي جديد وبدت الأسواق المالية العالمية على شفير الهاوية.

من المبكر تحديد إذا كنّا قد بلغنا مرحلة التعافي، أو إن كانت حالة الاقتصاد العالمي تزداد سوءاً. فقد خسر مئات ملايين الأشخاص حول العالم وظائفهم ومنازلهم، أضطروا إلى تبديل خطط تقاعدهم، أخرجوا أولادهم من المدارس، وقاموا بتغييرات جذرية أخرى في حياتهم. ومَن لم يخسر مسكنه وعمله أدرك فجأة مدى هشاشة الازدهار. كذلك، يتساءل الموظّفون الحكوميون في مختلف دول أوروبا وأميركا الشمالية عمّا سيحلّ برواتب تقاعدهم، فيما يترقّب عمال القطاع الخاص موجات صرف جديدة ويحاولون التأقلم مع سوق عمل أكثر تقلباً وأقل استقراراً مما توقعوه ماضياً.

صحيح أننا نجهل الاتجاه الذي يسير فيه الاقتصاد اليوم، لكننا تعلمنا بعض الدروس المهمة عن وضعنا الراهن وإلى أين نتّجه. إليكم أبرز عشرة دروس:

1- انتهاء القرن الأميركي.

عندما حلّت الأزمة، سارع المعلقون والنقاد إلى إعلان {عالم ما بعد الحقبة الأميركية} و{نهاية العصر الأميركي}، والتأكيد أن هذا الذعر في الأسواق المالية يشير إلى انهيار القوة الأميركية. لكن هذه ليست سوى تعليقات تافهة وأخطاء يرتكبها غالباً الناس عندما لا يأخذون التاريخ على محمل الجد أو يسمحون لآمالهم ومخاوفهم بأن تطغى على الوقائع. كانت القصة الأهم في تاريخ العالم طوال أكثر من 350 سنة نشأة وتطور اقتصاد عالمي ونظام سياسي قائمين على الرأسمالية الليبرالية التي برزت في البداية في بريطانيا العظمى واليوم في الولايات المتحدة. لكن هذه السنوات الثلاثمئة والخمسين من التاريخ شهدت أيضاً حالات كثيرة من الذعر المالي والانهيار الاقتصادي. فتاريخ الولايات المتحدة بحد ذاته يتميز باضطرابه المالي. فقد شهد بعض أسوأ الانهيارات في السنوات الخمسين التي تلت الحرب الأهلية، حين بنت الولايات المتحدة الاقتصاد الأكبر والأكثر تطوراً في العالم. كتب فريد زكريا مقالاً في صحيفة {واشنطن بوست} برهن فيه أن الولايات المتحدة خرجت من الأزمة أقوى مما توقعه الجميع. فلم تُسدل الستارة بعد وما زال العصر الأميركي قائماً.

2- نجاح الرأسمالية الليبرالية.

صحيح أن نصف معلّقي العالم ونقاده الاقتصاديين أمضى الأشهر الثمانية عشرة الأخيرة في إعلان انهيار القوة الأميركية، فيما راح النصف الآخر ينادي بموت النموذج الرأسمالي الأميركي: فقد اتضح أن الرأسمالية {الأنغلو- ساكسونية} الهمجية أقل فاعلية من النموذج الأكثر تحضراً وإنسانية المتبع في أوروبا مثلاً. لكنّ المعلّقين والنقاد أخطأوا مجدداً. فهذه الأزمة لم تختلف عن غيرها من أزمات، بل امتحنت شركاتِ العالم وحكوماته وعملاته. وبدأت تظهر اليوم نتائج الامتحان الأولى.

تبدو الولايات المتحدة معافاة على نحو غريب. فقد صمد الدولار خلال الانهيار، وعلى رغم ظروف حالكة كثيرة حلّت بهذا البلد، ظل المستثمرون يعتبرونه المكان الأفضل لمالهم. وعلى رغم أن سوق العمل الأميركية المرنة أدّت إلى خسارة كثيرين وظائفهم، إلا أنها عنت أيضاً أن التعافي سيبدأ في هذا البلد بسرعة أكبر. أمّا الدرس المهم، الذي يلزم أن يستخلصه الأوروبيون من الانهيار، فهو ضرورة تسريع تحوُّل أوروبا البطيء والأليم إلى شكل أكثر ليبرالية من أشكال الرأسمالية. وتعمد أحزاب أوروبا الاشتراكية في إسبانيا واليونان إلى فرض إصلاحات ليبرالية مكروهة لأنه {ما من بديل}، على حدّ قول مارغريت تاتشر قبل وقت طويل.

3- الدول المارقة طفيليّات.

قد يبدو من الفظ أو الوقح قول أمر مماثل، لكن لا بد من الإشارة إلى هذه النقطة: فقد فُضح زيف الادعاءات السخيفة التي تطلقها أنظمة مثل إيران وفنزويلا. تدعي هاتان الدولتان أنهما تتمتّعان بنوع من القيادة العالمية. إلا أن حكومتيهما طفيليات تقتات على الاقتصاد العالمي، وهما بعيدتان كل البعد عن تقديم بدائل للنموذج العالمي، لأنهما تعتمدان بالكامل على النجاح الرأسمالي. فعندما يزدهر النظام الرأسمالي العالمي، ترتفع أسعار النفط. هكذا تحصل فنزويلا وإيران على المال لتقدم المعونات في الداخل والقيام بمشاريع في الخارج. وحين يفشل النظام العالمي المكروه، تُفلس فنزويلا وإيران. تشبه قيادة هاتين الدولتين مراهقين ينتقدان عادات أهلهما البورجوازية التي يستفيدان منها. تتمتع إيران وفنزويلا كلتيهما بإمكانات كبيرة للمساهمة في صياغة حضارة العالم وثقافته في القرن الحادي والعشرين. لكن كي تتمكنا من ذلك عليهما استخدام ثروتهما النفطية للانضمام إلى النظام العالمي والمشاركة في صياغة العالم، بدلاً من استغلال هذا النظام لتزكية كبرياء قادتهما وأوهامهم.

4- زوال الأفكار اليسارية القديمة.

حتى الأزمة الاقتصادية العالمية عجزت عن بث حياة جديدة في عالم الاشتراكية الماركسية. فقد دفعت الأزمة بمعظم الدول الأوروبية إلى الانتقال إلى اليمين. ولم يشهد العالم أي إعادة إحياء تُذكر لاشتراكية البروليتاريا كرد فعل على المصاعب التي حلّت به. لا تزال الأنظمة {الشيوعية} المتبقية في العالم تحتفظ بسلطتها لأنها تنسب إلى نفسها الفضل في نجاح إدارة اقتصادات تتجه نحو الرأسمالية تدريجاً. إذا تأملنا جيداً أحوال العالم اليوم، نرى بعض المجموعات الهامشية يطالب، مثلاً، بتأميم المصارف وببعض حلول يسارية قديمة أخرى. كذلك يتظاهر الناس في أماكن كثيرة ضد برامج الحكومات القاسية. لكن ما من دولة حرة في العالم اعتبرت أحزابُها أن التحولات الاشتراكية ستشفي الاقتصاد من علله. ونلاحظ اليوم أن سياسات المقاومة والاحتجاج تأتي بشكل متزايد من اليمين (وهذا ليس أمراً جيداً دائماً).

5- غموض الاقتصاد العالمي.

هذه حقيقة محزنة. فعلى رغم النماذج الحسابية والنظرية كافة، لا تزال المبادئ الاقتصادية نظاماً فكرياً أكثر منه علماً يمكن توقع تطوراته. ومن المستبعد أن يتبدل هذا الواقع. فكما أن النماذج الإلكترونية في العالم لا تستطيع تحديد تبدلات ستشهدها البورصات في اليوم التالي، كذلك يعجز خبراء الاقتصاد في العالم عن معرفة زمن الأزمة التالية والسبيل إلى تفاديها. نسمع دوماً خبراء اقتصاد يتوقعون الانهيار وآخرين يبشرون بالازدهار. ولا شك في أن إحدى هاتين الفئتين محقة. لكن نجاحها ما زال حتى اليوم رهناً بالتوقيت والحظ أكثر منه أساليب توقع أفضل.

يضم عالم الاقتصاد مهرطقين متزمتين ومتعجرفين من كل نوع وشكل. لكن هؤلاء يخفقون عموماً في توقعاتهم. وهذا لا يعني أن المبادئ الاقتصادية تافهة. فالتفكير الدؤوب والمنظَّم في نشاط البشر الاقتصادي يؤدي إلى فهم أعمق وبصيرة أوضح في هذا المجال. علاوة على ذلك، يُعتبر تعلّم الأفكار الاقتصادية الأساسية أداة فكرية مهمة لكل شخص مثقف.

يصعب توقع النتائج الاقتصادية، لا لأن الاقتصاديين أغبياء (حاشى!)، بل لأن اقتصاد العالم في تبدل دائم. تتغير الوقائع، تبرز الصين، تنشأ صناعات جديدة، وتحت تأثير أفكار اقتصادية جديدة يبدل مسؤولو المصارف المركزية والمستثمرون توجهاتهم. كذلك يعاني المستثمرون والمقاولون تقلبات حادة في المزاج. ففي عام 2007، كانوا شديدي التفاؤل ليصبحوا متشائمين إلى أبعد الحدود في عام 2008. وتنعكس هذه التغييرات كافة على النظام العالمي بطرق لا يمكن توقعها. يستطيع خبراء الاقتصاد مساعدتنا في فهم ما يحدث، ويزودوننا بأدوات أكثر تطوراً للبحث عن المجهول. إلا أنهم يعجزون عن حمايتنا من التقلبات والمخاطر. لذا سنضطر دوماً إلى مواجهة هذا المجهول.

نستخلص من هذا كله أن فرصنا للتخلّص من حالات الذعر والانهيار لم تتحسن عما كانت عليه أيام الهولنديين إثر فقاعة {جنون التوليب}.

6- تقلّب الأسواق المالية.

الأسواق المالية أكثر تقلباً من الاقتصاد الحقيقي. يحاول خبراء الاقتصاد توقع مجريات الاقتصاد الحقيقي، وإن بنجاح محدود. لكن قليلين منهم هم من الحماقة بمكان لتوقع تطورات الأسواق المالية (ومَن يفعل ذلك يخسر غالباً أموالاً طائلة). وثمة أسباب وجيهة تعلل ذلك. يؤدي علم النفس دوراً كبيراً في التقلبات على الأمد القصير. وما زال مستحيلاً، حتى اليوم على الأقل، توقع حالة الجماهير النفسية. لكن هذا ليس السبب الوحيد. فقد صارت التبدلات في الأسواق المالية بالغة السرعة مع تطور الكمبيوترات ووسائل الاتصالات والبرامج الإلكترونية. كذلك بدّل فيض الأوراق المالية الجديدة خلال السنوات العشرين الماضية طريقة عمل الأسواق المالية العالمية. صحيح أن الانهيار حد من هذا الفيض لفترة وجيزة، إلا أنه سيتتابع لا محالة. فضلاً عن ذلك، يبحث الدائنون والمدينون على حد سواء عن طرق أقل كلفة وأكثر فاعلية لإدارة محافظهم المالية والحصول على النتائج القصوى لقاء الكلفة الدنيا. وتُعرب الشركات المالية عن استعدادها لمساعدتهم. وبمرور الوقت، تتغير طبيعة الأسواق المالية مع طرح أوراق مالية جديدة وتنامي حجم الأسهم والسندات المتبادلة وظهور برامج تحوط وبرامج تجارية أكثر تعقيداً. هكذا تنشأ مخاطر وروابط جديدة يعجز منظمو الأسواق والمشاركون فيها عن فهمها. وبعد فترة من الانهيار، تزداد ثقة المنظمين والمشاركين بأن النظام يسير على خير ما يُرام. فينشأ ميل طبيعي إلى زيادة تحمل المخاطر، وإن بدا قياس حجم هذه المخاطر وتحديد كلفتها أكثر صعوبة. فيؤدي ذلك إلى انهيار جديد مع ظهور مواضع ضعف غير متوقعة. عندئذٍ يعيد المنظمون والمضاربون النظر في المعايير التي يتبعونها وتبدأ مجدداً دوامة {المجهول} المتوقعة.

شهد العالم منذ فقاعة {جنون التوليب} الهولندية نحو 350 سنة من الانهيارات وحالات الذعر المالية. ومن المستبعد أن تتوقف هذه في المستقبل القريب. ولا شك في أن كلاً منها سيأخذ الناس على حين غرة.

7- انتهاء معركة الأسواق الماليّة وبدء معركة التمويل الحكومي.

أعلن ونستون تشرشل عام 1940: {انتهت معركة فرنسا، لكن معركة بريطانيا على وشك أن تبدأ}. نقف اليوم على مفترق طرق مماثل في الاقتصاد العالمي. فقد أخفقت الأسواق المالية في تحمّل سلسلة من اعتداءات ضخمة. فهرعت حكومات العالم إلى سد الفجوة بضمانات وعمليات إنقاذ كبيرة. لكن الأسواق اليوم تمتحن الحكومات. فهل ينجح الأوروبيون في إنقاذ شركة Club Med؟ وهل تتمكن الحكومات، التي تتسلح بنقد إلزامي وتواجه عجزاً ضخماً في موازناتها، من تأمين الحوافز الفاعلة لإعادة إشعال شرارة الاقتصاد العالمي قبل أن يدفع الخوف من الدين والتخلف عن السداد بالمستثمرين إلى فقدان الثقة بقدرة الحكومات على إدارة الدورة الاقتصادية؟

خسر الأشرار في معركة بريطانيا. ونأمل أن تنجو الحكومات من التراجع الراهن من دون أن تخسر مصداقيتها المالية. لكن اتضح اليوم أن الحكومات لا تتمتع بالقوة الكافية لتنقذ الشركات الخاصة أو تحفز الاقتصاد من خلال الإنفاق العجزي. ولا ينطبق ذلك على الحكومات الصغيرة فحسب، مثل اليونان، بل أيضاً على الولايات المتحدة بحد ذاتها.

يشير هذا الواقع إلى أننا انتقلنا إلى بيئة اقتصادية جديدة لم نشهد لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية. فطوال السنوات الستين الماضية، عملنا بموجب الافتراض أن حكومات العالم الكبرى تتمتع بسيادة مطلقة في المجال الاقتصادي، وأنها قادرة على فعل ما هو ضروري لإصلاح الاقتصاد. لكننا سنعيش في المستقبل في عالم ما عاد فيه هذا الافتراض واضحاً. واليوم، يواجه الاقتصاد العالمي مخاطر جديدة، كبيرة وغير متوقعة.

8- الانكماش السكاني.

شعرتُ طوال أكثر من عقد بقلقٍ غير مبرر من تداعيات التبدل السكاني على الموازنات الحكومية. غير أن هذه المشكلة لم تعد اليوم فكرة مجردة. فقد بدأ إنفاق البرامج الحكومية في الولايات المتحدة وأوروبا، حتى الصين، بالتأثير في وجهات نظر المستثمرين والحد مما تستطيع الحكومة إنفاقه من دون أن تتعرض للخطر. ففي مختلف أرجاء العالم الصناعي، تواجه الحكومات تقشفاً مالياً طويل الأمد. وفي المستقبل المنظور، ستبقى قدرة الحكومات على معالجة التباطؤ الاقتصادي بالإنفاق العجزي محدودة. صحيح أن التباطؤ العالمي كبح موقتاً القوى التضخمية، لكن الديون غير الممولة المخصصة لرواتب التقاعد وإنفاق البرامج الحكومية ستؤثر في معدلات الفائدة وتوقعات التضخم في حال تعافى العالم وعاد إلى ما يمكن اعتباره مسار {نمو} طبيعياً.

ستهيمن على السياسات محاولات رفع سن التقاعد، التأقلم مع عصر من موارد حكومية ضئيلة، وازدياد الطلب على الخدمات الصحية وغيرها. ولا شك في أن الحكومات التي تعجز عن إعادة تنظيم شؤونها المالية ستتكبد ثمناً باهظاً، خصوصاً خلال الأزمات الاقتصادية حين تتعرض أسواقها لعمليات مضاربة سلبية وتؤدي جهودها لإنقاذ نفسها بزيادة الإنفاق إلى تقويض مصداقيتها العالمية.

9- أهميّة المسائل الثقافية.

بدّدت الأزمة الاقتصادية قديماً الفكرة الوهمية بأن البلدان الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية باتت تعيش في عالم خيالي يسود فيه الازدهار والديمقراطية والاستقرار على نحو دائم. فقد ثبت، أقلّه راهناً، عدم صحّة الفكرة القائلة إن الرأسمالية الليبرالية تولّد عالماً مستقراً وآمناً حيث المخاطر في أدنى معدلاتها، ومستوى المعيشة مرتفع، والعدالة الاقتصادية أوسع. فالغرب يتحوّل إلى عالم فيه المخاطر أعلى، والتغيير أسرع، والاستقرار أقل، وانعدام المساوة أكبر، ذلك بسبب المنافسة العالمية والتغير التكنولوجي السريع. سيكون هذا الانتقال بالتالي شاقاً على جميع البلدان والثقافات، لكن سيكون محبطاً بالنسبة إلى البعض دون البعض الآخر. فضلاً عن ذلك، سيُختبر السلام الاجتماعي الهش في بعض البلدان الأوروبية بسبب تآكل النموذج الاجتماعي القديم المستمر. كذلك ستنمو البلدان (في أوروبا وفي أنحاء العالم) القادرة على استخدام طاقاتها لاستغلال الفرص الجديدة التي تتيحها الحقبة الرأسمالية الجديدة، بوتيرة أسرع من تلك التي تهدر طاقاتها في محاولة التصدي لهذه الحقبة بعد فوات الأوان. في النهاية، تصبح الدول السريعة التغيّر أكثر ازدهاراً وأقوى من تلك المتغيّرة ببطء. تاريخياً، ضم العالم الناطق بالإنكليزية بلداناً سريعة التغيّر، وذلك أحد أسباب ازدهار البلدان الناطقة بالإنكليزية إلى حد كبير خلال الحقبة الرأسمالية. وفي عالم ما بعد عام 2008، أصبحت القدرة على التكيّف مع الصعوبات والتغيير مع مرور الوقت أعظم من أي وقت مضى. لذلك فإن فهم مخاطر الاستثمار ومكاسبه ونزعتي النفوذ والازدهار العالميين في المستقبل مرتبط على نحو متزايد بفهم القوى الثقافية في كل بلد يسهّل على البعض الاستفادة من النظام العالمي الناشئ بينما يصعّبه على البعض الآخر.

10- خطورة تسييس الحوكمة الاقتصادية.

يعتمد النظام الاقتصادي الذي وضعناه إلى حد كبير على عدد صغير من شركات مالية عالمية تجمعها بلا شك علاقات وطيدة بالحكومات الوطنية. تستطيع هذه الشركات، بالنظر إلى نفوذها وغناها وأيضاً إلى كونها أحياناً {أكبر من أن تنهار}، التحكّم على الأرجح بالقوانين التي تنظّم سلوكها. ففي الولايات المتحدة، تركّز الاهتمام على العلاقات بين مديري بنك غلودمان ساكس وإدارات كلينتون وبوش وأوباما الحالية والسابقة. نجد بالتالي روابط مماثلة للرابط بين الحكومة وشركات المال في الولايات المتحدة وفي بلدان أخرى على حد سواء. وقد حظيت مثل هذه العلاقات الوثيقة، وخطر صراع المصالح الواضح، باهتمام كبير، ولا بد من ذلك.

لكن مشكلة الهيمنة التنظيمية أعظم وأكثر تشابكاً ببنيتنا الاقتصادية الحالية مما تبدو عليه في هذا المثال. فزيادة أهمية الدولة اقتصادياً خلال القرن العشرين- بغض النظر عن الدور الضروري والإيجابي الذي قد تكون اضطلعت به في مراحل مختلفة آنذاك – تؤدّي حتماً إلى تسييس الحوكمة والتنظيم بطرق تجعل الفقاعات وحالات الذعر والانهيارات أكثر تدميراً واحتمال حدوثها أكبر.

فمثلاً حين يشكّل الموظّفون الحكوميون شريحةً كبيرة من الناخبين، يستطيعون تغيير أجورهم ومعاشاتهم عبر التصويت ككتلة... يملكون القدرة على ذلك، ويطبقونها فعلاً. لذلك ثمّة أوجه شبه كثيرة بين كاليفورنيا، إيلينوي، واليونان.

لكن ذلك غيض من فيض. يؤدي تدخّل الدولة أكثر فأكثر في الاقتصاد عادةً وحتماً إلى مضاعفة صراعات المصالح ويولّد مخاطر أخلاقية، وخير مثال على ذلك سياسة الإسكان الأميركية التي اعتبرها كثيرون على نحو مصيب عاملاً أساسياً مسبباً لأزمة عام 2008. فقد تضاربت مصالح مجموعات كثيرة: المستهلكون الذين أرادوا قروضاً بأسعار فائدة بخسة وأسعار منازل مرتفعة؛ البنوك التي أرادت نموذج أعمال ناجحاً ومدراً للأرباح؛ مقاولون وشركات أخرى لديها حصّة في قطاع الإسكان، المدن والبلدات التي يزداد نمو أسسها الضريبية بوتيرة سريعة؛ والمدافعون عن الفقراء الذين أرادوا تعزيز حق المجموعات المهمّشة في الاستفادة من الثروات الهائلة في قطاع الإسكان. فضلاً عن ذلك، دفعت قوّة سياسية لا تُقاوم بالسوق العقارية والنظام المالي في الولايات المتحدة إلى نطاق أكثر فأكثر خطورةً. لم تظهر فقاعة الإسكان صدفةً، بل كانت نتاج سياسة وطنية اعتُمدت على مدى عقود، وقد بذلنا جهوداً حثيثة وأنفقنا أموالاً كثيرة لجعل هذه الفقاعة كبيرة وخطيرة بقدر ما بدت عليه.

كان {انتخب لنفسك مزرعةً} شعار أولئك الذين قاموا بحملات للترويج لـ{قانون المنازل} Homestead Act الذي أعطى أراضي زراعية مجانية في الغرب لكل من كان يرغب في استعمارها. تسبّبت الإعانات الزراعية التي وفّرها قانون المنازل عبر دعم الأسعار بكارثة {قصعة الغبار} والركود الزراعي الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، ذلك عبر تشجيع الاستثمار المفرط في الزراعة وإنشاء مزارع هامشية. وقد بدت آثار الانهيار أكثر تدميراً لأن الدعم الحكومي أسفر عن تضخّم الفقاعة إلى حد تخطّت فيه ما يُعتبر حجمها {الطبيعي}.

في المقابل، كان {انتخب لنفسك منزلاً} شعارنا الوطني على مدى السنوات الخمسين الماضية. وهكذا يبدو الأميركيون اليوم مدمنين على خفض أسعار الفائدة على الرهون العقارية، والخفض غير المبرر أيضاً لتلك المفروضة على القروض بضمان رهون عقارية ثانية وضمان مساكن، بقدر إدمان اليونانيين على التقاعد المبكر والعمالة الحكومية. بالنظر إلى الشعبية السياسية، يصعب على السياسات التغيّر، فتصبح أكثر تدميراً.

لذلك، لا يتوافر طريق سهل للخروج من هذه المشاكل. فالأسواق العالمية بحاجة إلى شركات متطوّرة، والشركات الكبرى تستطيع إدارة المخاطر وتحمّل الصدمات على عكس الشركات الصغرى. كذلك لا يجب أن يفقد الموظّفون المدنيون حقهم في التصويت حين يتولون وظائف حكومية. في المقابل، يستطيع السياسيون اتّخاذ القرار المصيب بالتعامل مع ملكية المنازل على أسس اجتماعية وسياسية، من دون نسيان السياسات التي ساعدت ملايين الأسر الأميركية في الاستحصال على أسهم كثيرة على مر السنوات.

مع ذلك، من الواضح أن الديمقراطية والرأسمالية مزيج خطير إنما ضروري. فبعد عقود فشلنا خلالها في التفكير ملياً في التكاليف والمخاطر، ها نحن اليوم نجني عواقب سياسات تولّد محفّزات فاسدة على نحو خطير في الوسطين السياسي والاقتصادي. وما من شك في أن خفض أشكال التدخل الحكومي الضار إنما الشائع في الاقتصاد، والحرص في الوقت عينه على أن تحتفظ الدولة بالسلطة والقدرة على توفير أطر العمل القانونية والتنظيمية الفاعلة، التي لا يستطيع أي اقتصاد حديث الازدهار من دونها، مهمّة صعبة وحسّاسة على الأوروبيين والأميركيين على حدّ سواء، ولا بد من مباشرتها اليوم.

back to top