ليست الأستوديوهات وادي عبقر إعلاميّون شعراء بلا قصيدة!

نشر في 12-01-2010 | 00:01
آخر تحديث 12-01-2010 | 00:01
No Image Caption
في مجالات الفنون كلّها أدعياء استطاعوا لأسباب مختلفة التسلّل إلى ساحة الفنّ، ومن بينهم من تمكّن من بناء حضور إعلاميّ واسع له، والكلمة الفصل تبقى لغربال الزمن الآتي الذي لا يراعي أحداً، ولا يقبل هدايا، وليس مسؤولاً عن أيّ صحيفة أو شاشة ولا يتلقّى اتّصالات من أهل النفوذ السياسي والمالي والفنّي...
غير أنّ الشعر هو الأكثر استسهالاً والحالي في عيون أعداد مخيفة من ناسنا، ربّما لأنّ {عُدَّته} متواضعة لا تتعدّى القلم والورقة المتوافرين حتّى على باب الثلاجة في المطبخ. وأتت {الحداثة} لتزيد طين الشعر بلّة، بعدما اعتبرت الموسيقى والقافية قيوداً ثقيلة على عنق الشاعر ودعت إلى اعتبار فروض الإنشاء المدرسيّة قصائد لا ينقصها سوى التوزيع والإخراج الطباعيّين المعتمدين في كتب الشعر الحديث. فدخل من باب الحداثة الواسع إلى ساحة الشعر جيوش من حملة الأقلام التي هدرت حبرها في المكان غير المناسب إلى أن صار الشعراء عندنا يشكّلون نسبة معيّنة من السكان في كلّ بلد على طريقة أهل الزراعة والصناعة والتجارة.

القصيدة الكلاسيكيّة

هذا الكلام لا ينفي مطلقاً أنّ كثيرين من أهل القصيدة الكلاسيكيّة، وتلك التي بنت مملكتها على التفعيلة، هم مجرّد نظّامين يتقنون، وبحدود معيّنة، تقنيّة الوزن والقافية، لكنّ سلال الموهبة فارغة في صحراء رغبتهم، والرغبة مهما كانت جامحة شتّان بينها وبين الموهبة.

لافتٌ هو التداخل بين الإعلام والشعر منذ الزمن العربيّ القديم، فالقصيدة كانت وسيلة إعلام القبيلة وإعلانها الوحيدة، وحضور القبائل ارتبط إلى حدّ بعيد بحضور الشعراء، ويتيمة هي القبيلة التي لم يرزقها الله صبيّاً شاعراً يتألّق في عينيه عسل القصيدة، وكم من قبيلة عوّض صوت شاعرها عن قِصَر سيفها بين أخواتها...

أمّا في زمننا، زمن الإعلام بامتياز، فقد تغيّرت اللّعبة وصارت للقبائل وسائل إعلامها ومذيعو أخبار الكرّ والفرّ والدولار والبترول وأتت الفرصة الذهبيّة للشعراء ليصيروا شعراء كما يجب، ويتنازلوا بفرح عظيم عن تضمين قصائدهم نشرات أخبار القبيلة، ويتفرّغوا لما في صدورهم من خير وغلال ومواسم وحدها تحيي القصيدة. لكنّ التداخل بين الإعلام والشعر لا يزال موجوداً، والمؤسف أنّه يأتي على حساب القصيدة. فالشعراء الحقيقيّون ذوو الموهبة والقدرة على جعل الكلمات تنتمي إلى الشعر في ظلال أقلامهم وأوراقهم هم خارج مملكة الإعلام وبلاطه، باستثناء قليل منهم عرف كيف يستفيد من السلطة الإعلاميّة منذ بداية مشواره الشعريّ وخير دليل على ما أقول الشاعر اللبناني سعيد عقل – أطال الله عمره وعمر قصيدته- فهو حرص منذ إطلالاته الشعريّة الأولى على أن يكون الإعلام ذاكراً اسمه مع كلّ طلعة شمس، ولا تزال جائزة سعيد عقل الدوريّة حاضرة ويمنحها لمن يستحقّ ولا يستحق من أهل الفكر والفنّ والإبداع...

من الشعراء المستفيدين إعلاميّاً   السوري نزار قبّاني والفلسطيني محمود درويش، وكلاهما حظي برافعة سياسيّة، فالرجلان اضطلعا في شبابهما بمسؤوليّات سياسيّة، لا شكّ أنّها فتحت لهما باب الإعلام فتحة {حرزانة}...

تبقى الكارثة الكبرى في فتح ملفّ الإعلاميّين – الشعراء. وصِفَة {الإعلاميّين} تأتي أوّلا، لأنّ هؤلاء امتهنوا الإعلام كصنّارة لاصطياد الرغيف الحلال شأن العاملين تحت الشمس كلهم، وبغضّ النّظر عن مؤهّلاتهم الإعلاميّة لأنّ فيهم المجلي والجيّد والدخيل، وهذا ما يحصل في معظم المهن. أمّا المشكلة فهي في الصفة الثانية، لأنّ هؤلاء الإعلاميّين يسيل لعابهم عند ذكر القصيدة، ويستعينون بنفوذهم الإعلاميّ للحصول على لقب "شاعر". والسؤال الذي يحلو طرحه: كيف يصير الإعلاميّ شاعراً؟

الرغبة والموهبة

أوّلا، يتجاهل الإعلاميّ الفارق الدلالي الواضح بين الرغبة والموهبة، وهو يعتقد أنّ النفوذ الإعلاميّ معادل للموهبة، فيستثمره قدر استطاعته من خلال شبكة علاقات يوفّرها له الإعلام ويصير ذا مفكّرة دسمة تزدحم فيها الأسماء والعناوين. وبات مألوفاً، وفي حفلة توقيع واحدة، أن يوقّع إعلاميّ أكثر من خمسمئة نسخة من جديده الشعري الذي يتكرّر سنوياً، ومن الإعلاميّين من يصدر ثلاثة إصدارات شعريّة أو أربعة... في العام الواحد.

ثانياً، يعرف الإعلاميّ المستميت للحصول على لقب {شاعر} مَنْ يستضيف في برنامجه أو برامجه التلفزيونيّة والإذاعيّة، أو من يكتب عنه في صفحته الثقافيّة. فمعظم هؤلاء المستضافين هم من أصحاب المحابر والمنابر الثقافيّة والشعريّة في المجتمع، وتجري الأمور على سنّة: {كما تراني يا جميل أراك}. ويستمرّ تبادل الخدمات بنجاح فائق السرعة، إلى أن يشعر الإعلاميّ أنّ صفة {الإعلامي} صارت ثقيلة عليه، ولا يرغب فيها، ويحرص على مخاطبته والتعامل معه بلقب "شاعر"...

حقيقة الأمر أنّ هؤلاء الإعلاميّين أصبحوا يشكّلون {مافيا} إعلاميّة – شعريّة تسيء إلى الإعلام والشعر في آن. وقد جوّفوا المشهد الشعري، وأصبحت إطلالة شاعر حقيقي من خلال أيّ وسيلة إعلاميّة متعذّرة خارج إطار الـ{مافيا} الناشطة. وقد يدخل هؤلاء الراغبون غير الموهوبين تاريخ الشعر، لكنّهم سيُذكَرون فيه بعنوان {شعراء بلا قصيدة}، لأنّهم يرتدون ثياب الفرسان ولا ينازلون غير الهواء، ولأنّهم يعتمرون تاجاً بلا رعيّة.

شعراء الحداثة

وكم هي معبّرة حكاية أحد شعراء الحداثة الذي أشرف على الصفحة الثقافيّة، في إحدى أهمّ صحف الشرق العربيّ، سحابة 20 سنة، وكان صفّ المنتظرين دورهم في لقاءات توقيع دواوينه يمتدّ إلى خارج الصالة... فهذا الشاعر نفسُه، وبعد إزاحته من منصبه، جلس وحيداً في لقاء توقيع أحد إصداراته وهو يتبادل الكلام مع زوجته وأحد الأصدقاء القدامى... هؤلاء الإعلاميّون لن يكونوا أفضل حالاً من ذلك الشاعر إذا أخذتهم الأيّام إلى ظروف متشابهة. والمؤلم أنّ آلاف الكتب الموقّعة التي تزعم الشعر يكفّنها الغبار على رفوف المكتبات أو ترتاح في سلال النفايات، وليتها بقيت أغصاناً تطلع من خواصر الشجر فَرُبَّ عصفور زقزق على غصن، حَمَل بمنقاده قافية صحيحة النّسب إلى الشعر ورمى بها على دفتر شاعر.

إستوديوهات التلفزة والإذاعة ومكاتب التحرير في الصحف لا تصنّع شعراء، وقد يوحي الجمال في وجه إعلاميّة لشاعر بقصيدة، غير أنّه لا يكون جواز سفرها إلى دنيا القصيدة... وحده الغد يدثّر أصحاب الرغبة بالظلال ويوقف أصحاب الموهبة على شرفة الضوء.

back to top