ما العمل يا سادة يا كرام؟

نشر في 10-06-2009
آخر تحديث 10-06-2009 | 00:00
 علـي بلوط إن الانتخابات اللبنانية قد أسقطت حلم مشروع إصلاحي كبير ولم تسقط أشخاصاً معينين، والدليل على ذلك أن المعارضة بقيت محافظة على عدد كراسيها في المجلس النيابي، وكذلك فعلت الموالاة، وما أنتجته الانتخابات هو زيادة تقسيم البلد إلى دويلات طائفية ومذهبية وأطلقت شياطين المذاهب من قماقمها.

عاملان لا ثالث لهما ساهما إلى حدّ بعيد في خسارة مشروع المعارضة في الانتخابات النيابية: الأول ما يُطلق عليه اسم الاصطفاف السياسي لكن اسمه في الواقع هو الحقد الطائفي ثم المال الانتخابي. وقد يختلف اثنان على رقم المبالغ التي صُرفت في المعركة الانتخابية، لكنهما لا يختلفان على أن «تسونامي» المال هو الذي اجتاح المناطق المسيحية وبعض المناطق السنية، لكن أمواجه وعواصفه تكسرت على السدّ المنيع الذي بنته المقاومة حول مناطقها في الجنوب وفي بعض الشمال والجبل. وفي تقدير المقدرين فإن مجموع ما أُنفق في الانتخابات قد يفوق بأضعاف مصاريف انتخابات الرئاسة الأميركية مع الفارق بأن مرشح الرئاسة الأميركية ينفق مئات الملايين وفي بعض الأحيان البليون دولار فوق الطاولة؛ أما عندنا فإن المبالغ تتبخر في الهواء، ويرفض البائع والشاري أن يعترف بها.

كان لبنان منذ الاستقلال هكذا ولكن على نطاق ضيق، وكان شراء الأصوات يجري في الخفاء لا خوفاً من السلطة المشرفة على الانتخابات، بل لأنه يعيب صاحبه. وجاءت الديمقراطية على الطريقة اللبنانية لتحدث تطوراً مهماً في مفهوم المال الانتخابي، حيث بات الصوت الانتخابي سلطة مطلوبة كل أربع سنوات ولا عيب ولا من يعيبون على شراء هذه السلطة أو بيعها.

ثمة نظرية تقول إن الفقراء لا يحبون الأغنياء، وقد بُنيت الحركة البلشفية في بداية القرن العشرين، ومن بعدها الحركة الشيوعية، انطلاقاً من هذا المبدأ الاجتماعي. غير أن الأمر يختلف عندنا، فالفقراء يحبون ويحترمون ويجلّون الأغنياء. فما على الغني إلا أن يظهر محفظته المتخمة أمام الفقير حتى ينال الحب والاحترام إلى درجة العبادة. إن نتيجة الانتخابات النيابية أثبتت مرة ثانية أن مشاريع الإصلاح في لبنان هي ضرب من المستحيل، لقد حاول الرئيس الأسبق فؤاد شهاب في الستينيات من القرن الماضي أن يرتفع بلبنان من دولة المزرعة إلى دولة المؤسسة لكنه فشل. وتوهم ميشال عون أن «الشعب اللبناني العظيم» قد تغيّر بمفعول التجارب الدامية حين قام بتدمير بلده بيده خلال الحرب الأهلية، غير أن الطبيعة تتغلب دائماً على التطبّع، وأن الأرض «البور» لا تنتج زرعاً ولا شجراً. أدرك فؤاد شهاب ذلك فهرب من تحمل مسؤولية استكمال مشروعه الإصلاحي لأن البلد «فالج لا تعالج». فهل يسير ميشال عون في الطريق نفسه، والاثنان هما من نتاج مؤسسة عسكرية واحدة وكذلك الرئيس الحالي ميشال سليمان والذي سبقه إميل لحود.

غير أن المهم في هذا الموضوع هو المصير الذي كرّست ديمقراطية لبنان وجود حقائق كثيرة يجب الاعتراف بها مهما كانت قاسية، ومنها أن بلد الطوائف سيبقى بلد الطوائف تتحكم به الغرائز الطائفية والمذهبية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعلى الطريقة اللبنانية ذاتها فإننا سنسمع وعلى فترة طويلة ترديداً كلامياً ومحاضرات أطول من شتاء القطب الشمالي تضع مسؤولية الفشل على أي كان من الغرباء والأشقاء والأصدقاء والأعداء، وتصوّر الأمر كأنه مؤامرة دولية وإقليمية وشيطانية. إنه هروب من مواجهة الحقيقة نحو اللا واقع، فلو سلمنا جدلاً بوجود المؤامرة، والعقل اللبناني والعربي يميل أكثر ما يميل سيكولوجياً إلى أن يكون ضحية مؤامرة، بل يستمتع بها، إلا أن الواقع خلاف ذلك. إن الأرض اللبنانية معطاءة، وهي تنتج وبكفاءة عالية ما يُزرع فيها. فإذا كان هناك من لوم أو اتهام، فإن من الإنصاف أن يوجه إلى الزارع أولاً وأخيراً لأن «دود الخل منه وفيه» كما يقول المثل القروي.

إن الانتخابات اللبنانية قد أسقطت حلم مشروع إصلاحي كبير ولم تسقط أشخاصاً معينين، والدليل على ذلك أن المعارضة بقيت محافظة على عدد كراسيها في المجلس النيابي، وكذلك فعلت الموالاة، وما أنتجته الانتخابات هو زيادة تقسيم البلد إلى دويلات طائفية ومذهبية وأطلقت شياطين المذاهب من قماقمها. وما كان مستتراً بخجل أصبح ظاهراً، فالحقد السني الشيعي صار واضحاً كعين شمس تموز الحارقة، والكره المسيحي بين الموارنة (شعب الله المختار للبنان) وبين بقية المذاهب المسيحية سيفعل فعله الشنيع في الجسم المسيحي.

إن اللبنانيين قد ساروا على نهج «جيرانهم» الإسرائيليين الذين أوصلوا، منذ أشهر، إلى سدة الحكم غلاة التطرف الصهيوني، وها نحن اليوم قد أوصلنا إلى قصور وسرايات الحكم غلاة المذهبيين من الطرفين الموالي والمعارض، فكيف نستطيع أن نتصور مستقبل بلدنا طالما هو هذا حاضرنا؟

لم يعد أمام العقلاء، على قلّة عددهم وحيلتهم، إلا المراهنة على وجود ما تبقى من حكمة وتعقل لإنقاذ البلد مما ينتظره... وما ينتظر البلد الكثير من الشرور. إن لبنان اليوم على أبواب امتحان نهائي، فإما أن يعود إلى حضن الواقعية العقلانية، وإما أن تلعب وتتلاعب به رياح «تسونامي» شرقاً وغرباً... شمالاً وجنوباً. وفي هذا الامتحان النهائي مادة وحيدة اسمها رئاسة مجلس النواب التي ستأتي قبل اختيار حكومة جديدة. فإذا ركبت الموالاة الجديدة رأسها وساومت بعيداً في غريزة الانتقام من الخصوم، واختارت رئيساً ينتمي لنهجها، اسماً وقلباً وقالباً، فإنها الكارثة بعينها، أما إذا أبقت القديم على قِدَمه فإنها بذلك تفتح نافذة صغيرة على الجنة، وبالرغم من قناعتي بأن الغريزة هي التي ستنتصر على ما تبقى من الحكمة والعقل، فإنني مع القليل من أمثالي لا خيار لنا سوى الدعوة إلى المراهنة على هزيمة غريزة «الفانديتا المافياوية».

النتيجة: إن المعارضة لم تربح الأكثرية التي كانت تسعى إليها في الانتخابات، لكنها في الوقت ذاته لم تخسر أقليتها السابقة ورصيدها لدى ركائزها الشعبية، وهي مازالت تتنفس وتركل بشدة عندما تدعوها الحاجة. إن الخاسر الوحيد هو البلد بأمنه واستقراره واقتصاده إذا ما جرى التصادم بين الفريقين على تشكيل الحكومة وعلى انتهاج خط استراتيجي جديد. إن الموالاة الجديدة، على ما يبدو، لن تتخلى عن مطلب نزع سلاح «حزب الله»، وهو الشعار الكبير الذي رفعته في الانتخابات وفازت على أساسه، والمعارضة ترفض التسليم، فما العمل يا سادة يا كرام؟

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top