فؤاد زكريا وداعا خجلا

نشر في 16-03-2010
آخر تحديث 16-03-2010 | 00:00
 طالب الرفاعي تبدو لي كتابة التأبينات العابرة في الصحافة أو عبر وسائل الإعلام، عن شخصيات فكرية وإبداعية وثقافية وفنية بعد رحيلها عن حياتنا الدنيا، أقرب ما تكون إلى لقاء لم يقع، أو هدية لم تصل إلى صاحبها، وبالتالي كأنها لم تكُن.

لقد اعتاد عالمنا العربي تمجيد كتّابه ومفكّريه ومبدعيه وشخصياته العامة بعد موتهم، فلحظة يلفظ الأديب أو المبدع أو الفنان آخر أنفاسه، لحظتها فقط يقع واجب الالتفات إليه، والاهتمام بنتاجه، ولحظتها يصبح نجماً ينبري العشرات إلى تمجيد نباهته، وتعديد مناقبه، والقول بنبوغه وأثره على من حوله. وأرى أن ذلك يظهر، بشكل أو بآخر، طبعاً بائساً مضَّ وتأصل في الوجدان العربي، وأعني به عدم القدرة على نكران الذات، والتخلص من الأنانية الفردية، والتنافس الدنيوي المفضوح، وبالتالي النظر إلى الآخر بمنظار الموضوعية، وتقدير وإجلال موهبته وصنيعه الفكري والإبداعي، ورفعه إلى المنزلة التي تليق به من الاحترام، وأخيراً، تكريمه بما يستحق.

إن أيَّ مجتمع من المجتمعات إنما يحيا ويعيش بنبض طلائعه من المفكرين والمبدعين والمثقفين، فهم لسان حاله وفخره بين الأمم، ووحدهم يمتلكون قدرة خاصة على قراءة وتفهم اللحظة الراهنة، ومن ثم توقع وكشف ملامح اللحظة القادمة.

ومن هنا، فإن أيَّ مفكرٍ أو مبدع حقيقي بارز في فكره وأدبه وفنه، هو حالة متفردة، يجب تقديرها وإجلال قدرها، والتنبه إلى أهميتها، فبفقدانها تنطفئ شمعة إنسانية لا سبيل إلى تعويضها، ولا إمكان البتة في خلفها، إلا بشمعة أُخرى، مخبأة في رحم الغيب، قد يطول الزمن كثيراً قبل أن يجود بها.

لقد احتضنت الكويت على الدوام شموعاً عربية فكرية وأدبية وثقافية، وكان لتلك الشموع دور بارز ومهم في إغناء الساحة المحلية والعربية بعظيم عطائها، ولا جدال في أن الدكتور فؤاد زكريا هو أحد أولئك الذين تركوا بصمة كبيرة على مسيرة الثقافة والفكر في الكويت، وليس أدلّ من صنيعه الكبير في المشاركة بتثبيت حضور مجلة «عالم المعرفة» التي صدر عددها الأول عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في يناير 1978، وكان هو «المستشار»، ومعه كوكبة مستنيرة من علماء ومفكري العالم العربي والكويت يشاركون في هيئة تحريرها، ومحركها الأساسي في إيصالها إلى قراء العربية حيثما كانوا، ولتشكل في التالي من الأيام واحدة من أهم السلاسل الفكرية العربية على الإطلاق.

في آخر لقاء لي مع الدكتور فؤاد زكريا بين جنبات المجلس الوطني في المدرسة القبلية، تمنيت عليه لو أجري معه لقاءً مطولاً عن حياته في الكويت منذ جاءها دكتوراً لجامعة الكويت عام 1974، مروراً بقراءته مجريات الحياة الاجتماعية والفكرية في الكويت، واحتضانه ورعايته سلسلة «عالم المعرفة»، وانتهاءً برؤيته الفلسفية لمستقبل الحياة الفكرية العربية، بدا، يرحمه الله، متعَبا، راح ينظر إليَّ وبعد برهة همس بي: «سيكون».

ولأنني بقيت انتظر منه إضاءة لكلمته، أضاف بالنبرة الهامسة ذاتها: «في المرة القادمة».

سرقني الزمن في اهتمامات موزعة، وابتعد الدكتور فؤاد زكريا في حياته ومعاناته مع مرضه، ولم يقع اللقاء.

لروحك الطاهرة أيها المعلم تحية إجلال، أخجل من إرسالها إليك في يوم وداعك. 

back to top