صنّاع المستقبل

نشر في 21-01-2009
آخر تحديث 21-01-2009 | 00:00
 بلال خبيز رافق المراسلون الصحافيون، أثناء الحملة الأميركية على العراق، القوات الأميركية التي تتقدم على الأرض، وكانوا يبثون صوراً للتقدم البري الأميركي، مستخدمين آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا البث والتصوير، إنما، وعلى ما يذكر الجميع، كانت هذه الصور غبشة وغير واضحة المعالم، فكان الصحافيون أمام خيارين: إما بث الصور الغبشة في لحظة وقوع الحدث، وإما بث صور واضحة بعد حدوثه، وبما أن شاشات التلفزيون تعشق البث المباشر أكثر مما تلقي بالاً للوضوح، فقد اختار الصحافيون بث الصور لحظة وقوع الحدث.

في الجهة المقابلة لتلك الحرب، كان الصحافيون الذين اتخذوا من بغداد مقراً لهم، يبثون صوراً عالية الوضوح والنقاء لضحايا القصف الأميركي، لكن هذه الصور كانت قديمة وتكاد تبدو أوثق صلة بالماضي مما تتصل بالحاضر، ذلك أن إعلان الحرب على العراق كان يعني أن الموت العراقي بات تحصيل حاصل، وأن بث صور الموتى أثناء الحرب ليس أكثر من تكرار لموت سابق، في العراق أو في أفغانستان أو في أي مكان آخر.

كان الموت الذي يصور في العراق حدثاً يقع في الماضي، فيما بدت صور إطلاق الصواريخ الأميركية على المدن العراقية صوراً مستقبلية، وبكلام آخر، كانت تقنيات التصوير العالية التي تبث صوراً مغبشة، تقترح علينا أنها تستطيع التقاط صورة المستقبل: غبشة وغير واضحة المعالم، لكنها تقع في المستقبل تماماً.

لم ندر يومها أين توقع الصواريخ الأميركية ضحاياها؟ وفي أي وقت؟ كان علينا أن ننتظر زمناً قصيراً حتى يوليو «تموز» عام 2006، لندرك أن الصواريخ الأميركية التي أطلقت على العراق تركت ضحاياها في لبنان صيف ذلك العام، وفي غزة في نهاية عام 2008 وبداية 2009.

في هاتين الحربين الأخيرتين، كان الجانبان يتصرفان كما لو أن موت المدنيين تحصيل حاصل. أمر حدث في زمن سابق، ولا يحدث الآن، وأن الصورة الوحيدة التي يجدر بالناس الانتباه إلى أهميتها هي صورة الأسلحة المتجددة وقدرة المقاتلين على ترويع المدنيين.

في هاتين الحربين كان ثمة عناية شديدة من الأطراف المتحاربة في نفي الموت عن الجنود والمقاتلين وإخفاء الخسائر العسكرية، ومبالغة في إبراز حجم الضرر اللاحق بالمدنيين في كلا الجانبين. كان المقاتل من «حزب الله» أو حركة «حماس» يستمر مقاتلاً ما فتئ حياً، لكنه ما إن يخر صريعأً حتى تتم نسبته إلى المدنيين. وفي الجانب الإسرائيلي، كان الأمر أشد ترويعاً، لقد بالغت إسرائيل طويلاً في حجم خسائرها من جراء صواريخ القسام وصورايخ «حزب الله» من قبل، وعمد سياسيوها إلى لف العالم مرات ومرات لشرح ظُلامتهم الكبرى، بل إن نظام الدعاية الإسرائيلية اخترع ضرباً جديداً من خسائر الحرب، سماها إصابات الهلع، فأضيف الخائفون من القصف القليل إلى جموع المدنيين الذين يجرحون ويقتلون بفعل القصف الإسرائيلي، ولا شك أن المعادلة بالغة الجور على الفلسطينيين واللبنانيين في هذا المقام، حين يجمع الخائفون إلى الجرحى والمعوقين والذين فقدوا حيواتهم من جراء تلك الحرب، ويعاملون على سوية واحدة، لكن هذا السلوك كان يعني في الجانبين أمراً واحداً.

كانت إسرائيل تريد التمثيل بالجسم اللبناني والفلسطيني لتكوي الذاكرتين اللبنانية والفلسطينية بأهوال الحرب وفظائعها، منعاً لأي حرب محتملة في المستقبل، وفي الجانب الآخر كان «حزب الله» وحركة «حماس» يريان في المجازر الإسرائيلية في لبنان وغزة أسباباً لادعاء النصر، بدليل أن البنية العسكرية لهاتين المقاومتين لم تتأثر بالهجوم، وأن كل ما فعلته إسرائيل لم يكن إلا اعتداءً سافراً على المدنيين، والحجة في الجانبين كانت واحدة تقريباً، إسرائيل تدعي العجز عن حماية جرحى الخوف من صواريخ القسام، إلا عبر التمثيل بالجسمين المدني الفلسطيني واللبناني، مما يضع مهمات الجيوش والمقاومة في الدولة الحديثة محط تساؤلات وتشكيك عميقين، إذ يفترض بالجيش أن يحمي المواطن من كل أذى مثلما يجدر بالمقاومة أن تحمي الشعب الذي تدافع عنه من كل أذى أيضاً.

وعلى أساس النجاح في هذه الحماية تبنى مقاييس الهزيمة والنصر، لكن الجيش الإسرائيلي والمقاومتين في لبنان وفلسطين اعتمدوا المقاييس الخطأ في هاتين الحربين، حيث كان المبتغى والمطلوب شيطنة الطرف الآخر أمام الرأي العام العالمي والمحلي في الوقت نفسه، وهو ما جعل المدنيين في كلا الجانبين من دون أي حماية على الإطلاق، ذلك أن الطرفين كانا يعتبران موت المدنيين حدثاً نافلاً وقديماً، وأن الصواريخ التي تذهب إلى أهدافها هي ما يصنع المستقبل.

* كاتب لبناني

back to top