لا مخرج إلا بامتلاك مقومات القوة

نشر في 18-12-2008
آخر تحديث 18-12-2008 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري هذا موضوع ملح... لابد من العودة إليه، في المجال العربي، مراراً وتكراراً. وهو حتمية امتلاك مقومات القوة الشاملة إذا أراد العرب الخروج من مأزقهم الصعب الراهن... ولو بعد حين.

فبإمكان العرب أن يصبحوا يساريين إلى أبعد الحدود... وبإمكانهم أن يصبحوا يمينيين سلفيين إذا خاب أملهم في البدائل الأخرى.

وبإمكانهم أن يجأروا بالشـكوى الصاخبة المُرَّة من ظلـم القوى الظالمة، ومـن طوفان «العولمة» التي «تآمرت» بها عليهم! وبإمكانهم أن يشرحوا عدالة قضاياهم بألف لسان- ولهم من القضايا العادلة كثير- ولكن العدل الذي لا تدعمه القوة في هذا العالم عدل ضائع مضيع ولا قيمة له... وبإمكان نخبهم أن تصرخ في الفضائيات ما شاء لها الصراخ والنواح... ولكنها لن تغير من موازين القوة شيئاً... فالظاهرة الصوتية- وحدها– لا يمكن أن تعادل الظاهرة الفاعلة في أي مجال... وإنما هي مجرد تنفيس خادع. ينام بعده الصارخ هادئاً مطمئناً متوهماً أنه غيّر موازين العالم... لكنه في واقع الأمر لم يمس جناح بعوضة!

جرّب العرب تغيير الأنظمة... فأتت أنظمة جعلتهم يتحسرون على الأنظمة القديمة... بعد أن رأوا هزائم أكبر وذاقوا استبداداً أمّر... وضاعت الرؤية لأن الأنظمة القديمة ليست هي الحل... وجربوا تغيير الإيدولوجيات من راديكالية إلى معتدلة إلى راديكالية من جديد... فازداد الطين بلَّة... ذلك أن الراديكالية التي لا تعلِّم أصحابها إلا الانتحار وقتل الأبرياء عشوائياً هي راديكالية تدمير وخراب. ولم يفارقهم التفكير بالأمنيات... ولم يتأصل لديهم- بعد- التفكير الموضوعي الذي يقرر ما يراه حقيقة دون تزويق أو تلميع... وهذا النوع من التفكير هو الشرط الذي لا مهرب منه لأي نهضة حقيقية.

وآخر مثال على ذلك ما تمنوه بشأن فوز الرئيس الأميركي الجديد الذي تصوروا فوزه في البداية انتصاراً لقضاياهم هم... وليس للشعب الأميركي!

وجاءهم الرد بعد يوم واحد من التعيينات الجديدة التي مثلت صدمة لأغلبهم. فالقضايا لا تنتصر إلا بعمل أصحابها أنفسهم، وليس بمنقذ يأتي من مكان ما ليملأها عدلاً... وإن جاء، فهو قادم عبر مؤسسات لها أجندتها.

وسيظلون ينتظرون وينتظرون... ما لم يأخذوا بأسباب القوة الضرورية.

وأسباب القوة الضرورية ليست سوى « معركة الحضارة « قبل أي معركة أخرى.

وأمامهم شعوب شرقية مثلهم في اليابان والصين والهند... بين أبرز الأمثلة.

والدرس البليغ أن كل أمة من هذه الأمم اختارت النهج المناسب لظروفها مع نهج التحديث الذي لابد منه. ولم تدَّعِ أمة منهم أنها بلغت الكمال... فمن يزعم ذلك يبدأ انحداره... لكنهم يحاولون ويحاولون... بعد أن أدركوا شروط التغيير. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

وإذا كانت التعبئة المعنوية مهمة فلابد أن يصحبها استعداد مادي.

ولا ينكر أحد أهمية المعنويات الإيمانية... فقائد علماني كنابليون يعترف بها ويرى أن القوة المعنوية بالنسبة للقوة المادية تساوي ثلاثة إلى واحد. غير أنه في لحظات تاريخية معينة تصبح الحاجة أساساً للقوة المادية، ويصبح السؤال: كم دبابة يملكها البابا ويستطيع تحريكها؟... لا كم طاقة من طاقات الإيمان لديه؟!

ولدينا في تاريخنا العربي تجربة الرسول الكريم في «غزوة الخندق» عندما أرادت القبائل اجتياح المدينة واجتثاث جذور الدعوة الجديدة منها.

فالنبي الكريم، والوحي يتنزل عليه، والمسلمون الصادقون كلهم إيمان من حوله، لم يهمل الاستعداد المادي للمعركة. واستمع إلى مشورة سلمان الفارسي في حفر «الخندق» حول المدينة استفادة من تجارب الحروب الفارسية .

وفي عصرنا نرى أن الأمم الشرقية جميعها لم تر مناصاً من خوض معركة «التحديث» لاكتساب القوة الضرورية اللازمة لهذا العصر والتعويض عما فات.

ويمكن إيجاز «فكر التحديث» في النقاط التالية:-

1) إن «التحديث» مسألة تنظيمية هائلة، لكنه ليس «إيديولوجيا الحداثة». إنه اكتساب القوة التي تمكِّن أمة من الأمم في عصرنا الحديث اللحاق بغيرها- اقتصاداً وعلماً وتسلحاً- بما يجعلها قادرة على التنافس مع القوى الأخرى دون تبعية أو استسلام.

2) إن «وعي التخلف» في هذا المجال مسألة حيوية مصيرية. وهذا التخلف كامن في درجة التحديث التنظيمي ولا يمس الثقافة أو التراث. فالثقافة والتراث لا يخضعان لمقاييس التقدم والتأخر لأنهما ذاتيان. وقد تقرر لدى الباحثين في الفكر منذ عقود أن ثمة فارقاً نوعياً كبيراً بين الثقافتين: الثقافة الأدبية ونحوها والثقافة العلمية. فالأولى ذاتية خالصة، والثانية موضوعية وتُقاس بمقاييس التقدم والتخلف. وفي نطاق هذه الثقافة لابد من تحديث يدفع بالأمة إلى الأمام في منهج تفكيرها قبل كل شيء.

3) إن التحديث ليس هو التغريب. فالتغريب ثقافة ذاتية خاصة بأهلها في الغرب. أما التحديث فظاهرة عالمية في صميم التطور الحضاري للبشرية. وإذا كان التحديث قد بدأ في الغرب، فإن ذلك مصادفة مكانية لا أكثر. ففي أقصى الشرق استوعبت اليابان التحديث، وكذلك الصين والهند وغيرهما من أمم آسيا الصاعدة. وقد قامت كل أمة باستيعاب التحديث بطريقتها الخاصة وحسب ظروفها الملائمة لها. وهذه التجارب في التحديث دروس بالغة الأهمية للأمم غير الغربية السـاعية للتحديث. وأهم النتائج للتحديث- بعد اقتباسه حسب الظروف الخاصة والمناسبة لكل أمة- أنه حدث في كل الحالات بمواكبة وحدة قومية للأمم التي أقدمت عليه. فالحضارة الحديثة لا تهضمها إلا معدة واسعة وكيان كبير. وثمة إحصاءات بهذا الصدد مثلاً في عدد السكان اللازمين للتحديث وبالتالي عدد العلماء الذين يمكن تواجدهم من تلك الكثافة السكانية ... إلخ وتقديرات أخرى في المصادر المختصة بهذه العملية.

4) إن الغرب، حيث انطلقت تاريخياً عملية التحديث، له أطماعه الاستعمارية التي ظهرت وتظهر، ولكن له وجهه الحضاري الذي ينبغي عدم إغفالـه في تقدم الشعوب. فالأمم الحية قاومت «استعمار» الغرب بيد، واقتبست «حضارة» الغرب باليد الأخرى، بل في بعض الأحيان قاومت استعماره بحضارته. وعندما نغض الطرف عن جانبه الحضاري ويستغرقنا طابعه الاستعماري فحسب، فإننا نخسر جانباً مهماً من تطور النوع الإنساني. وإذا كانت الحضارة الغربية في طور الانحطاط والانهيار- كما يحلو لنا أن نكرر، فإنها لم تكن كذلك عندما نهضت على أساسها أمم الغرب واقتبست من تحديثها أمم الشرق. ومازالت تقدم نموذجاً تاريخياً يمكن تأمله، وإن صح أنها في طور انحطاط، فهو انحطاط أخلاقي وروحي، ولكن هل تعاني انحطاطاً علمياً وتكنولوجياً مثلاً؟

5) إن كل ظاهرة حضارية لابد من «اختراقها» أي التعرف إليها بعمق وبصفة حميمة، سواء كانت في الغرب أم في الشرق. هذا لا يعني تبنيها والخضوع لها . إنـه يعني، بهدف تقوية الفكر والخبرة، هضم دروس تلك التجربة للاستفادة منها. إما لتجنب سلبياتها، أو لاستيعاب إيجابياتها. ومن لم يعرف «الجاهلية» لم يتفهم الإسلام.

 

* مفكر من البحرين

back to top