لا داعي لإعادة اختراع العجلة!

نشر في 06-11-2008
آخر تحديث 06-11-2008 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري قيل وسيقال كلام كثير عن الأزمة المالية العالمية. وثمة توقعات باستمرارها واستفحالها وتوقعات أخرى بقرب انتهائها... وإذا كان خبراء المال والاقتصاد في حيرة من أمرهم، فمن الحكمة عدم إصدار أي «فتوى» بشأنها.

ولسنا من الخبراء في «الآليات» المصرفية والمالية التي أدت إليها، لكننا نظرياً نوافق المفكر الفرنسي روجيه غارودي أو «رجاء» غارودي الذي ظل يحذر منذ سنوات من الانجرار وراء سرعة النمو، أو ما يسمى «نمواً» كأن يربح المستثمر مئة في المئة على استثمار أمواله فإذا انخفضت إلى خمسين في المئة- وهي نسبة أرباح تبقى مرتفعة في كل الأحوال- صرخ بالويل والثبور وعظائم الأمور بأن الاقتصاد العالمي في أزمة وأنه موشك على الانهيار... أو أن تنتج شركة سيارات مئة ألف سيارة فإذا تطلبت أحوال السوق أن تكتفي بإنتاج سبعين ألف «تكهربت» الأجواء ودخل العالم... نعم العالم كله!... أزمة اقتصادية.

ووراء ذلك كله معيار كمي للنمو يرى «النجاح» في زيادة في كل شيء كالزيادة في كميات الأموال المصرفية- مثلاً- التي أدت إلى ظاهرة الاقراض مع تسيب في الضمانات رغبة في الربح السريع، وهو ما يدخل في صلب الأزمة الراهنة.

ومؤدى ذلك «فلسفة» خلاصتها: «استهلك حتى تهلك»، فهذه للأسف فلسفة عصرنا الاستهلاكي. والمدهش أن الاستنتاجات الفكرية في ظل هذه الأزمة أكثر من متسرعة. فكما تسرع «فوكوياما» بإعلان نظريته في «نهاية التاريخ» بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بمعنى توقف الصراع التاريخي بين الرأسمالية والشيوعية بانتصار الأولى وتهافت الثانية، يتسرع كتاب آخرون في «التبشير» اليوم بانهيار الرأسمالية ليؤكدوا- نفسياً- قرب انهيار القوة الأميركية. وهذه القوة كغيرها من القوى في التاريخ تخضع لقانون الصعود والتراجع، وهي ليست محصنة ضده وعلى وشك التقلص فعلاً.

غير أن «اقتصاد السوق» في التباس إيديولوجي مزمن ارتبط في أذهان الكثيرين بالرأسماليات الغربية. وهنا مكمن الخطأ. فالاقتصاد الياباني قائم على اقتصاد السوق. والاقتصاد الصيني يتجه حثيثاً إليه، والاقتصاد الهندي يقتفي أثره، وكذلك الاقتصاد البرازيلي المتنامي. وهذه كلها قوى جديدة صاعدة ولا ترتبط بالقوة الأميركية المتراجعة.

وثمة منحى اقتصادي فرض نفسه في تطور الرأسمالية العريقة في غرب أوروبا، موطن الرأسمالية التاريخي، حيث توصل الطرفان المتصارعان في تلك المجتمعات إلى أنه لا الرأسمالية الخالصة- وحدها- ولا الاشتراكية الخالصة- وحدها- بقادرة على تحقيق الرفاه الاجتماعي المنشود. وأنه لابد من تضافر الرؤيتين أو النهجين لتحقيقه، بحيث تمنح الحرية لاقتصاد السوق لتفعيل الاستثمارات مع تدخل الدولة لحماية الأغلبية في مجال الخدمات الحيوية الضرورية كالسكن والغذاء... إلخ.

وفي أم الرأسمالية التاريخية، بريطانيا، عندما تولى حزب العمال الحكم لم يعلن إلغاء الرأسمالية، بل أبقاها وطورها في ظل «الضمانات الاجتماعية» وإنصاف العمال، وتعاون الدولة مع القطاع الخاص في سبيل المصلحة العامة. وكذا فعلت الأحزاب «الاشتراكية» الاسكندنافية والفرنسية وغيرها، عندما جاءت بها الليبرالية السياسية إلى سدة الحكم.

وكان الدرس التاريخي أن الرأسمالية الذكية- لا البدائية ولا المتوحشة أو اللامسؤولة- هي التي تعطي للمجتمع حقه، عمالاً ومواطنين، كي تحافظ على اقتصاد السوق الذي هو متنفسها ومجالها الطبيعي. ولا يمكن تصور اقتصاد متنام ومتحرك لا يراعي قانون العرض والطلب في اقتصاد السوق. لكن اقتصاد السوق كالتنين لابد من لجمه بضمانات اجتماعية أساسـية وإلا دمر نفسـه ودمر مجتمعه... والقادة المستنيرون في أوروبا خصوصا مازالوا يتحدثـون عن «اقتصاد السوق الاجتماعي» استمراراً لفكر تقدمي إنساني يعترف بقوانين التاريخ في جانبيها بين رأسمالية منضبطة لا مفر منها، ومسئولية اجتماعية لا يبقى الاقتصاد الحر من دونها.

وكذا تفعل الرأسمالية اليابانية الذكية اليوم في اهتمامها بأوضاع عمالها وأحوال مجتمعها. وفي الصين، باقتصادها الذي يحث الخطى نحو اقتصاد السوق، يهتم الساسة والمخططون والمفكرون بتقريب الفجوة بين الأغنياء الجدد والفقراء الذين لم يستفيدوا- بعد- من التوجهات الاقتصادية الجديدة حيث كل ازدهار اقتصادي له آثاره الصعبة على الطبقات الفقيرة. وذلك ما يحدث في روسيا حيث تتذكر الأجيال القديمة خدمات الدولة السوفييتية، وتعمل الدولة الجديدة على حصر الترف الاستهلاكي للنخب الصاعدة وتنبيهها إلى مسؤوليتها الاجتماعية.

وتقف خلف الأزمة نزعتان فكريتان متناقضتان من مصدرين مختلفين، لكنهما يلتقيان في اللامسؤولية وفي التفكير بالرغبات والأماني.

أما النزعة الأولى، فهي التي سادت بعد انهيار المعسكر الاشتراكي داعية إلى رأسمالية منفلتة ومتسيبة لا تراعي أي اعتبار اجتماعي إنساني.

وأما النزعة الثانية القادمة من جهة بعيدة عنها فهي نزعة التوهم بأن الدولة- في ظل العولمة- تتلاشى وتتقلص. وقد برهنت الأحداث تهافت هذه النظرة. فالدولة لابد منها في إعادة تصحيح الخلل الرأسمالي المنفلت وإعادة التوازن بين اقتصاد السوق وحاجات المجتمع. والمدهش أن الذين بشروا بنهاية الدولة هم الذين يطالبون اليوم بضرورة تدخلها لانقاذ ما يمكن انقاذه وحماية مدخرات المواطنين من العبث الرأسـمالي اللامسـؤول. هكذا فالدولة قد تكـون «شراً» في نظر البعض، لكنها «شر لابد منه» ولا مفر من إصلاحها لتبقى حامية لغالبية المواطنين وقت الضرورة.

ومن التجربة الأوروبية الخصبة، فإن إعادة تكيف الدولة مع المتغيرات ربما بدت ضرورية؛ لكننا لا نرى تقليصاً لمهامها الأساسية أو تخلياً عنها. والاتحاد الأوروبي هو مجموعة إرادات ودول قائمة مستقلة... إذا تقلصت مهامها يوماً ما فلابد من سلطة أوروبية موحدة تتولى مسؤوليات الدولة.

هكذا، فإن عجلة التاريخ تسير حسب منطقها، ولن تغير منه «مطبات» مفاجئة، فلا داعي لإعادة اختراعها!

* مفكر من البحرين

back to top