قصص القرآن الغلام غلام يضحي بنفسه من أجل الإيمان
إن تدبر القرآن وقصصه ـ عند قراءته أو سماعه ـ خاصة في رمضان (شهر القرآن) تجعل في الإنسان ملكة يستطيع بها أن يفرق بين الحق والباطل، والنور والظلام.وإن قراءة قصص الأنبياء والمصلحين التي توجد مبثوثة في كتاب الله؛ تعرفنا طريق الخلاص من العقبات والمشاكل التي تحيط بنا، وتصرفنا عن الانخراط في سبيل الله الذي اختطه لنا رسله الكرام..
وقصة أصحاب الأخدود قصة من قصص القرآن ؛ ولكنها تمتاز بمزية خاصة؛ فالنبي الكريم شرح لنا في حديث طويل جداً تفاصيل هذه القصة، وموقف ذلك الغلام البطل؛ الذي ليس نبياً ؛ ولم يبلغ حتى مبلغ الرجال؛ فكيف استطاع أن يُنجّي شعبه كله من نار الله في الآخرة ، وهو في هذه السن المبكرة ... وكيف استطاع أن يفنّد كل مزاعم هذا الملك الجبار ويكشفه؟، وكيف ضحى بنفسه لينقذ أمته؟! ـ إنَّ الملك أراد ، وإن الساحر أراد .. كل منهما أراد أن يكون ذلك الغلام واحداً في سلسلة الكفر والكافرين؛ وأراد ملَك الملوك (الله جلَّ جلاله) ، أن يكون غلامهما شهيداً؛ يحيا عند الله ، وأن ينقذ الله به الناس؛ فكان ما أراد الله .. الذي لا معقّب لحكمه.بداية القصة: كان هناك ملك من ملوك اليمن؛ اسمه ذو نواس، ظَلَم ظلماً شديداً؛ ادعى الألوهية ليُشَرِّع ظلمه ويجعله حقاً مكتسباً فيقبل الناس جميع تصرفاته، ويفعل ما يشاء، وكان هناك راهب يعيش في هذه البلدة، ويعلم أن ما يفعله الملك ما هو إلا دجل، وأنه ليس إلهاً؛ إلا أن الراهب كان يعلم أنَّ ادعاءه الألوهية هو وسيلة ليحقق مطالبه الشخصية باسم الدين، فأصبح الراهب أمام مشكلتين: غياب لا إله إلا الله في حياة الناس، وغياب حقوق الناس تبعاً لذلك.وكان ذلك الملك رجلاً داهية؛ فهو يعلم أنه بشر من البشر؛ تنتابه أمراض البشر، ويحس بالضعف أمام نفسه، وأمام غيره. ويعلم أن ادعاءه الألوهية ادعاء كاذب، وأنه يحتاج إلى وسيلة أخرى ليستمر في خداع الناس، وليستمر في ظلمهم وأكل أموالهم، واستباحة أعراضهم، وسفك دمائهم.لم يجد هذا الملك غير أن يستعين بالمفسدين أمثاله؛ الذين فسقوا وكفروا ورضوا بالحياة الدنيا؛ فاستعان بجنود قساة، واتخذ له ساحراً؛ يخدع به الناس، ويستخدمه في ترسيخ ادعائه الكاذب بأنه إله!يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر».وهذا هو شأن الظالمين والمفسدين في كل زمان ومكان؛ إما أن يتخذوا ساحراً بشراً؛ إذا كان المجتمع يؤمن بهذه الأمور من الخرافات، وأنواع الدجل، وإما أن يستخدموا وسائل تسحر الناس وتصرفهم عن الحقيقة والواقع، وتجعلهم يعيشون الوهم والخوف؛ مثلما يفعل الشعراء والمداحون، ومثلما تفعل وسائل الإعلام، وأبواقها المختلفة.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه».وفي رواية أخرى: «انظروا لي غلاماً فهما، أو قال: فطناً لقناً، فأعلمه علمي هذا، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه».انظروا إلى أعوان الشر.. إنهم يخططون لاستمرار شرهم ودجلهم، والساحر كبر ووهن عظمه، ويعلم أن نهايته قد اقتربت، ويخاف ـ إن مات فجأة ـ أن ينقطع دجله ويتوقف تأثيره، ويقف الملك أعزل في مواجهة تلك الجماهير المظلومة والمسحوقة؛ فطلب من الملك أن يبحث له عمن يخلفه في سحره وشره؛ حتى يظل الخداع والدجل موصولاً! وبالفعل تم اختيار الغلام المناسب وأُتي به إلى الساحر. حرص المختارون أن يكون الغلام صحيح العقل؛ حتى يفهم أمور السحر بسرعة؛ ولكنه كان لا يزال يحتفظ بنقاء فطرته؛ فهو لا يزال صغيراً لم تلعب به الأهواء ولا الشهوات. ظل الساحر يعلم الغلام ويغدق عليه ، وظل الغلام مواظباً على دروس الساحر.ولكن.. الأمور لا تسير وفق إرادة الناس.إنَّ للكون إلهاً يسيره وفق ما يريده هو؛ لا وفق ما يريده الناس وهو ـ سبحانه ـ إذا أراد أمراً هيأ له وسائله.ولنستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنرى تدبير الله ولنعرف بقية القصة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكان الغلام إذا أراد الساحر مر بطريق الراهب».وفي الترمذي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب عن الدين كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره، فقال: إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند الراهب».مرَّت الأيام، والفتى يمكث مع الراهب قبل أن يذهب للساحر فيتعلم منه، فإذا ذهب للساحر ضربه لأنه تأخر، ثم عند عودته لمنزله يذهب للراهب؛ فيجلس معه ويتعلم منه؛ فإذا عاد إلى أهله ضربوه لأنه تأخر عند الراهب.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر».والملاحظ في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أميل إلى تصديق الراهب؛ لأنه صبر على الضرب؛ ولأن الراهب لم يكن عنده ما يعطيه له سوى الحق؛ ولأنه سأل الراهب: ماذا يفعل كي لا ينقطع عنه وعن دروسه ، وأنه أطاعه فيما أمره به.وتتلاحق الأحداث، ويؤمن ذلك الغلام إيماناً راسخاً بالله، ويكفر بالملك، ويدعو لدين الله، وعلم الملك بذلك فجن جنونه.. وحاول قتل الغلام بشتّى الطرق فلم يفلح؛ لأن الغلام كان يلجأ إلى الله، وكان الله يجيب دعاءه.ـ أخيراً, قال الغلام للملك؛ إذا أردت أن تقتلني فاجمع الناس كلهم، واربطني في شجرة، ثم صوّب نحوي قوسك، وقل: باسم الله رب الغلام... واضطر الملك أن يخضع للغلام، وأن يفعل ذلك؛ فأصاب السهم صدغ الغلام.. ثم مات الغلام!ـ هنالك؛ علم المجتمعون أن ربَّ الغلام هو الإله الحق فآمنوا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}.