زمن أوباما... حدود التغيير
أجاد الرئيس الأميركي أوباما في توظيف الأيام الأولى لولايته لصناعة صورة لدور وسياسة القوة العظمى تجاه الشرق الأوسط مغايرة عن تلك التي خلفتها سنوات بوش بحروبها الاستباقية ومغامراتها العسكرية واستهزائها الشديد بقواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان. أصدر أوباما أوامر تنفيذيةً بمعاملة معتقلي غوانتانامو وفقاً للمواثيق الدولية (معاهدات جنيف) وبتعليق محاكماتهم الاستثنائية لأشهر أربعة تراجع خلالها أساليب التقاضي المتبعة إزاءهم ضماناً لاحترام حكم القانون، وبالإغلاق النهائي للمعتقل بداية عام 2010 وكذلك بإلزام وكالات الاستخبارات الأميركية بإغلاق السجون السرية لمعتقلي الحرب على الإرهاب خارج الولايات المتحدة، وباحترام مبادئ حقوق الإنسان. وجه أوباما أيضاً القيادة العسكرية للجيش الأميركي في العراق إلى دراسة خطط للانسحاب السريع وفقاً لوعده الانتخابي القاضي بإنجاز انسحاب خلال 16 شهراً، كما عين السيناتور السابق جورج ميتشيل مبعوثاً رئاسياً لقضايا السلام في الشرق الأوسط، وأرسله سريعاً في جولة استكشافية للمنطقة بعد محادثات هاتفية مع عدد من الرؤساء والملوك.وتواكب مع هذه الفاعلية التنفيذية دبلوماسية عامة نشيطة وجذابة للإدارة الجديدة أحاديث وتصريحات أوباما المتتالية حول أهمية تطوير علاقة إيجابية بين واشنطن والعالم العربي-الإسلامي تستند إلى الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ولا شك أن حوار أوباما الطويل نسبياً (17 دقيقة) مع فضائية العربية قبل أيام قليلة جاء الأكثر شمولاً وتكثيفاً، كونه تطرق فيه إلى كل القضايا الناظمة للدور والسياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط. هنا تدلل القراءة التحليلية لنص الحوار على حضور خمس نقاط ارتكاز أساسية تصاغ استناداً إليها الصورة المغايرة للولايات المتحدة:1- اعتماد الأداة الدبلوماسية كإطار رئيس لممارسة الدور وتنفيذ السياسات الأميركية والانفتاح تفاوضياً على جميع الأطراف الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط، ومن بينها تلك الدول التي وضعتها إدارة بوش مراراً وبمنطق إقصائي في خانة أعداء واشنطن وعلى رأسها إيران وسورية.2- التشديد على رغبة القوة العظمى في الإصغاء إلى رؤى الأطراف الإقليمية والبحث عن القواسم المشتركة ومساحات التوافق معها، كون الإدارة الجديدة عازمة على التخلي عن نهج بوش المتمثل في الفرض القسري للرؤية الأميركية على المنطقة («الشرق الأوسط الكبير» بين 2003 و2005 متبوعاً «بالشرق الأوسط الجديد» منذ 2006) والإصغاء أحادي الاتجاه إلى طرف وحيد هو إسرائيل.3- العمل على إنتاج مقاربة متكاملة إزاء قضايا وأزمات الشرق الأوسط تربط الولايات المتحدة في سياقها بين ملفات الصراع العربي-الإسرائيلي (عملية السلام في لغة واشنطن السياسية) ومستقبل العراق وأمن الخليج والأمور العالقة بينها وبين إيران وسورية ومكافحة الإرهاب، وهو ما يشكل انقلاباً بيّناً على نزوع إدارتي بوش الأولى والثانية للفصل بين الملفات الإقليمية والتعاطي مع بعضها وكأنها بمنزلة جزر منفصلة لا علاقات بينها والتهميش التام للبعض الآخر. 4- التفرقة في ما خص الحرب على الإرهاب بين دوائر ثلاث خلطت إدارة بوش دوماً بينها، وطالب حلفاء الولايات المتحدة قبل أعدائها بأهمية مقاربتها بأساليب متباينة على نحو سيرشّد حتماً من الممارسات الأميركية في هذا المجال، ويحول دون الربط بين الإسلام والإرهاب.وفي حين تقتصر أولى هذه الدوائر على تنظيم «القاعدة» وما عداه من تنظيمات إرهابية أخرى تتقاطع معه تنظيمياً في بعض الساحات وتتمايز عنه في غيرها، ويوحدها جميعاً العداء للقوة العظمى والرغبة في تهديد مصالحها، وتلك ستتعامل معها إدارة أوباما بنهج المواجهة الأمنية والعسكرية والضربات الاستباقية المحدودة في استمرارية واضحة مع نهج الإدارة السابقة، وإن رشّد ذلك جزئياً في ظل التزام حد أدنى متوقع من الجيش والاستخبارات الأميركية بمبادئ حقوق الإنسان، تتسع الدائرة الثانية لتشمل القوى والتنظيمات الفاعلة في الشرق الأوسط التي ترى في واشنطن عدواً محتملاً لها أو تمتلك رؤيةً مغايرةً لرؤيتها حول كيفية إدارة شؤون وصراعات المنطقة إلا أنها تنبذ استخدام العنف ولا تهدد المصالح الأميركية. إزاء هذه القوى والتنظيمات، وفي موقع القلب منها حركات الإسلام السياسي غير العنفية، ستتبع إدارة أوباما مقاربة غير صراعيةً تعترف بنقاط الاختلاف الجوهرية معها دون أن تناصبها العداء بإدراجها كأطراف في الحرب على الإرهاب، أما الدائرة الثالثة والأخيرة فهي ملك للمسلمين من مواطني المجتمعات العربية والإسلامية، وعليه تريد الإدارة الجديدة أن تنفتح بخطاب علني متوازن يركز على احترام الإسلام ويرفع عنهم عبء التوصيف كأعداء محتملين للولايات المتحدة فقط لكونهم مسلمين. وقد جاءت صياغة أوباما لهذه الأفكار شديدة الدقة في حواره مع العربية؛ «ستكون إدارتنا حاسمة في التمييز بين منظمات كـ«القاعدة» تعتنق العنف والإرهاب وتوظفهما وأولئك الذين قد يختلفون مع إدارتي وبعض أفعالها أو قد يمتلكون رؤيةً خاصةً بشأن الكيفية التي يتعين على مجتمعاتهم أن تتطور في سياقها. مع هؤلاء سنختلف ولكن باحترام متبادل. بالمقابل لا أستطيع أن أحترم منظمات إرهابية تقتل الأبرياء وسنستمر في مطاردتهم. أما العالم الإسلامي الواسع فسنمد له يد الصداقة».5- الابتعاد في الخطاب العلني لإدارة أوباما وفي أحاديث المسؤولين الأميركيين عن استخدام مفاهيم ومفردات لغوية سيئة السمعة دأبت إدارة بوش، عمداً أو بغير وعي، على التعويل عليها كالفاشية الإسلامية والإرهاب الإسلامي والحرب الصليبية على الإرهاب واستعدت بذلك قطاعات واسعة من العرب والمسلمين على القوة العظمى التي بدت وكأنها تقود حرباً ضد الإسلام. ثم يكمل هذه الحساسية الأولية، وهي بكل تأكيد وإلى جانب ارتباطها بالنقاش النقدي الرائع الذي دار في المجتمع الأميركي خلال السنوات الماضية حول العلاقة مع الإسلام والمسلمين وثيقة الصلة بخلفية أوباما الأسرية ومعيشته في إندونيسيا المسلمة لفترة وثقافته العالية، توجه نحو اعتماد لغة صريحة تعترف بالمصالح الرئيسية للولايات المتحدة دون مواربة (أمن إسرائيل على سبيل المثال) وبوجود اختلافات حولها مع العالم العربي-الإسلامي أو مع قوى بعينها داخله ومن ثم لا تخشى الحوار بشأنها.وعلى الرغم من جاذبية هذه الصورة المغايرة بنقاط ارتكازها السالفة والدبلوماسية العامة الذكية التي تبدو إدارة أوباما ساعية إلى إنتاجها وكونها تشكل بدايةً إيجابيةً بعد كارثية بوش، إلا أن رفع هذه العناصر إلى مصاف التغير الجذري في الدور والسياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط يعد خطيئة منهجيةً وسياسيةً كبرى. فأولويات الولايات المتحدة لا يحددها ساكن البيت الأبيض بمفرده، بل تمليها المصالح الاستراتيجية المحددة في مستويات تنفيذية وتشريعية عدة، وهي في الشرق الأوسط ما لبثت تتعلق بأمن إسرائيل وضمان السيطرة على الخليج الغني بالنفط. ولا يعني التعويل المهم على الأداة الدبلوماسية والانفتاح التفاوضي على الأطراف الإقليمية أن واشنطن ستتخلى عن انحيازها لإسرائيل- الذي دخل مع البروتوكول الأمني الموقع بين الدولتين في يوم العمل الأخير لإدارة بوش مرحلةً نوعيةً جديدةً- لمصلحة احترام الحقوق والمطالب العربية أو ستكف عن محاولة احتواء نفوذ إيران الإقليمي وإيقاف برنامجها النووي. كذلك لن يسبب ترشيد الحرب الأميركية على الإرهاب تحولاً سريعاً في السياسة الرافضة لاعتبار «حزب الله» و«حماس» (على معارضتي الواضحة لتوجهاتهما وممارساتهما) حركات مقاومة أفرزتها حقائق المنطقة ولا سبيل لإلغائها.ظني، إذن، أننا مع أوباما من جهة أمام نقلة نوعية في أسلوب إدارة دور وسياسات القوة العظمى في الشرق الأوسط دون تغير جذري في قراءة المصالح الاستراتيجية، ومن جهة أخرى أمام عودة للتوازن المفقود خلال إدارتي بوش بين النهج الدبلوماسي وتوظيف الأداة العسكرية على نحو يعطي كل الأطراف الإقليمية قدرة أفضل على الحركة والتعاطي بانفتاح مع الولايات المتحدة بعد إرهاق واستقطاب السنوات الماضية. وفي الجهتين ما يكفي لتفاؤل محدود دون مبالغة.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي