الترياق الروسي

نشر في 20-08-2008
آخر تحديث 20-08-2008 | 00:00
 بلال خبيز على خلفية الصراع الذي نشب بين جورجيا وروسيا بشأن أوسيتيا والأطماع الجورجية فيها، عادت بعض التحليلات المألوفة عربياً إلى التنفس. وحملت كلها عنواناً واحداً: هل عدنا إلى حقبة الحرب الباردة، وصراع المعسكرين الشرقي والغربي؟ والحق أن كل تسمية قد تصح لوصف الصراعات الناشبة والمندلعة في غير مكان من العالم، إلا صفة الباردة. فهذه صراعات حارة وحروب صريحة لا لبس فيها. مع ذلك يجدر بنا أن نتغاضى عن البرودة والحرارة، ونلتفت إلى فحوى الصراع وإمكاناته، حتى لا نظلم محللينا العرب مرتين. مرة حين ننزع عن وصف البرودة كل وجه حق، ومرة حين ننزع عن رجائهم عودة المعسكرين كل الأمل.

لنبدأ من الأمل والرجاء. ما الذي ينتظره العرب، فيما لو عادت روسيا عملاقاً يستطيع مواجهة أميركا في كل مكان، ويناصب سياساتها العالمية الاعتراض الذي يصل إلى حد الاشتباك أحياناً؟ هل يظن المحللون العرب أن ثمة نهضة تعقب ولادة مثل هذه الاحتمالات تؤدي في ما تؤدي إليه إلى استعادة القضايا العربية لوهجها المتألق؟ الأرجح أن الرجاء الذي يبطنه المحللون العرب، والذي يظهرونه أحياناً عند شيوع أخبار كل حادثة على الحدود السوفييتية السابقة، يفترض أن النهضة العربية السابقة كانت في أصلها ومآلها تستند أولاً وأخيراً إلى الدعم السوفييتي، ولا شيء غيره. إذ لا يعير هؤلاء الأوضاعَ العربية الراهنة أهمية تذكر. والأرجح أن أياً منهم لم يفطن إلى أن إيران أقل موارد من مصر أو المملكة العربية السعودية، ومع ذلك استطاعت أن تغالب وتمانع وتضمن لنفسها مقعداً مؤكداً في أي مؤتمر يبحث في تسوية ما للقضايا العربية الصرف. لم تكن إيران في حاجة إلى دعم سوفييتي صريح، ذلك أن الدعم الأساسي الذي تستند إليه يتمثل في قوة الأيديولوجيا مرة أخرى، وفي قدرتها على التجييش وتغيير مفاهيم النصر والهزيمة، وتالياً إعادة برمجة الأهداف والغايات.

لا أحد يريد للعرب سلوك المسلك الإيراني. فهذا مسلك فيه كثير من الوعورة وكم هائل من التجاوزات تكاد تطغى على كل ما عداها. لكن الإشارة إلى الدور الإيراني المستجد على ساحة العمل الدبلوماسي الدولي، تتصل اتصالاً مباشراً بمعنى واحد لا غير. ألا وهو ضرورة النظر بعين الاهتمام الشديد إلى الأوضاع الداخلية العربية. فليس ثمة طريق آخر لمواجهة المخططات الخارجية، روسية كانت أو أميركية أو إسرائيلية أو إيرانية، غير الشروع في عملية بناء قدرات ذاتية، على المستويات الثقافية أولاً وأساساً، ثم الاجتماعية، فالسياسية والاقتصادية، والترتيب الموضوع في هذا السياق ليس عرضياً ولا اعتباطياً.

مسألة ثانية، يجدر بنا أن نتنبه إلى مخاطرها: أثناء الحرب الباردة، كان ثمة اتصال بين اليسار العالمي الذي قاده الاتحاد السوفييتي وحركات التحرر الوطني العربية من مصر عبد الناصر إلى فلسطين، مروراً بلبنان وسورية والعراق واليمن. أي أن السياسة العامة التي حركت هؤلاء جميعاً، أوروبيين وآسيويين وإفريقيين وأميركيين لاتينيين، كانت تستند إلى مبادئ متقاطعة ومتشابهة، وتنطلق من أفكار وتطلعات حيال المجتمعات التي تعمل ضمنها، وتنشد تغييراً حاسماً في كل مكان نشطت فيه.

اليوم يبرز سؤال بالغ الأهمية: ما المبادئ التي تجمعنا مع روسيا أو الصين؟ وكيف يمكننا أن نتبين التقارب في وجهات النظر والأهداف؟ لا شيء ظاهراً في هذا المضمار غير الانزعاج من سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية. والحال، فإن المشروع الأميركي هو المشروع الوحيد الذي يملك أسباباً مبدئية وتوجهات قيمية تمكنه من الاستمرار والتحول ولبس ألف وجه ووجه. إذ لو أن سائلاً سأل أحد محللينا اليوم: ما الذي تريده روسيا في العراق؟ أي نظام؟ ووفق أي صيغ اجتماعية وسياسية وثقافية تريد أن تنشر في العراق؟ لحار ولم يجد جواباً قطعاً. لكن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ممكنة في ثلاث حالات فقط: حالة إيران وحالة تنظيم «القاعدة» وحالة الولايات المتحدة الأميركية. فكل طرف من هذه الأطراف يملك أجوبة عما يريده في المنطقة، ويحمل لها مشروعاً متكاملاً. فهل تستطيع روسيا بناء قوة عالمية بالتذمر فقط؟

الأرجح أن الأمل العربي بعودة صراع المعسكرين الدوليين ينطلق من عجز متفاقم. ومظهر العجز يتبدى أكثر ما يتبدى في ثقافة تحجرت على أفكار عفّى عليها الزمن ودرستها الأحداث الجسام. لذلك ينظر العرب اليوم بعين الأمل والرجاء إلى كل خلاف يبرز إلى العلن بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ذلك لأنهم لا يملكون ما يضيفونه في هذا الشأن. وشأنهم في هذا شأن من يجلس ضارباً كفاً بكف، ينتظر أن تتحسن الأحوال في بغداد ليحصل على الترياق من العراق.

* كاتب لبناني

back to top