نحو تنوير عربي جديد 2

نشر في 30-06-2008
آخر تحديث 30-06-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي لقد بدأ فجر النهضة العربية منذ قرنين من الزمان بثلاث بدايات متمايزة، كلها جادة وأصيلة. الأول الدين، فلا يتغير شيء في واقع الأمة إن لم يتغير فهمنا للدين أولاً، طالما أن الدين مازال حياً في النفوس، يحدد تصور الناس للعالم، ويضع معاييرهم للسلوك. التراث مازال متواصلاً، من الماضي إلى الحاضر.

ونظراً لسيادة روح المحافظة عليه في العصور المتأخرة، وأحادية النظرية، الأشعرية في العقيدة، والشافعية في الشريعة، واستبعاد الفرق والمذاهب الأخرى التي كانت تمثل الرأي الآخر، المعتزلة والخوارج والشيعة، فقد بدأ الإصلاح الديني يتخلص من روح المحافظة، ويرد الاعتبار إلى الرأي الآخر، فأصبح محمد عبده أشعرياً في التوحيد معتزلياً في العدل، واعتبر الشيخ شلتوت الفقه الجعفري مذهباً خامساً، وتأسيس جماعة التقريب بين المذاهب، واندلاع الثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان. وظهر المعتزلة الجدد يدعون إلى العقل والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ووضع الأفغاني أسس الإيديولوجية الإسلامية الثورية، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، واندلعت الثورة العرابية بناء على تعاليمه بعد صيحة عرابي في قصر عابدين «إن الله خلقنا أحراراً ولم يخلقنا عقاراً، والله لا نورث بعد اليوم».

واندلعت الثورة المهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا ثم عمر المختار. ونشأت حركات الاستقلال في المغرب العربي، علال الفاسي، وعبد الحميد بن باديس، وحركة علماء الجزائر، والبشير الإبراهيمي، وعلماء الزيتونة، الطاهر بن عاشور، والفضل بن عاشور.

وامتدت النهضة الإسلامية إلى الهند، فظهر أحمد خان مدافعاً عن الحداثة والعصرية من خلال التعليم والثقافة وإن ساوا بينهما وبين الغرب، ثم ظهر محمد إقبال مؤسساً الذاتية المستقلة في مواجهة الغرب باسم الاجتهاد من دون التقليد.

وكانت الحركة الإصلاحية قد بدأت من قبل وسط شبه الجزيرة العربية في الحركة الوهابية تنقية للتوحيد، ورفضاً لأشكال الوساطة كلها بين الإنسان والله، وأنواع الشرك النظري والعملي كلها، وإقامة سلطة سياسية تحول الدعوة الدينية إلى دولة، وإن غلب النقل على العقل.

فكان لهذا التيار الفضل في الدفاع عن الهوية وتوحيد الأمة، وخروج معظم حركات التحرر الوطني منها لمقاومة الاستعمار والصهيونية، بل لإقامة دول حديثة ونظم اشتراكية وعمران، ونقل الحضارة الإسلامية من فترتها الأولى الزاهرة في القرون السبعة الأولى التي أرّخ لها ابن خلدون، وإنهاء الفترة الثانية، عصر الشروح والملخصات، وبداية فترة ثالثة تعود فيها الحضارة الإسلامية في عصر ذهبي جديد، ومازال يجاهد في فلسطين «حماس»، وجنوب لبنان «حزب الله». بل لقد قامت الثورة الإسلامية في إيران بفضله وتثير دهشة العالم بهذا التحول الديمقراطي، والصراع الحر بين المحافظين والإصلاحيين.

والثاني الدولة، فلن يتغير شيء في الواقع إن لم نبن ِالدولة الوطنية الحديثة أولاً كما قال الطهطاوي: «فليكن هذا الوطن مكاناً لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع». فهي دولة حديثة تقوم على حرية الفكر، والنظام البرلماني، والتعددية الحزبية، والدستور، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وتعليم البنين والبنات، والتخطيط والعمران الحديث الذي يشمل الزراعة والصناعة. وهو النموذج الليبرالي الذي كان سائداً في الغرب، وكان المثل الأعلى لحركة التنظيمات في تركيا.

لم يتبنّه الطهطاوي تقليداً للغرب، بل اجتهاد في القديم، فلا فرق بين مُثل التنوير الوافدة من الغرب وبين الموروث القديم. فما سماه الغرب العقل معروف عند المعتزلة في الحسن والقبيح العقليين، وفي الشرع. ولا فرق بين ما قاله مونتسكيو في «روح القوانين» وبين ما قاله ابن خلدون في العمران. فمونتسكيو ابن خلدون الغرب، وابن خلدون مونتسكيو العرب. والدولة تقوم على حب الأوطان، وهو جزء من تاريخ الأمة وأقوالها المأثورة مثل «حب الوطن من الإيمان» ومؤلفاتها العديدة مثل «الحنين إلى الأوطان» لأبي حيان التوحيدي، والمصالح العامة في الشريعة هي المنافع العمومية في العمران الحديث.

يقرأ الطهطاوي الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا في «تلخيص الإبريز». فمعرفة الآخر الحديث ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتنمية النفس وإكمال نقصها، ومعرفة الأنا ليست غاية في ذاتها، بل لرؤيتها في صوره الآخر، والحكم على القديم بمعيار الجديد، هذه المرآة المزدوجة بين الأنا والآخر هي التي ساعدت على رؤية نقائص الأنا في مرآة الآخر، ورؤية نقائص الآخر في مرآة الأنا.

حرص الفكر الليبرالي الحديث على إيجاد التوازن بين القديم والجديد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، من أجل خلق ثقافة جديدة واحدة تتجاوز ثنائية الموروث والوافد كما فعل الحكماء من قبل، وفي الوقت نفسه جعل حاجة الواقع هو المحك في الاختيار من المصدرين، ما يلبي هذه الحاجة، يتناول تاريخ العرب قبل الإسلام، وسيرة ساكن الحجاز من التراث القديم، و«تلخيص الإبريز» وترجماته من الوافد الجديد ثم «مناهج الألباب» في الدولة المصرية الوطنية الحديثة، كما بناها محمد علي وأسرته.

وكان من مآثر هذا التيار إبراز أهمية الحرية والديمقراطية والدستور والبرلمان والتعددية الحزبية والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، والعمران والتصنيع والتخطيط، وقد أدى ذلك إلى نشأة الدولة الحديثة في مصر وترسيخ النظام الديمقراطي الذي كان سائداً قبل الثورات العربية الأخيرة في منتصف القرن الماضي.

والثالث، الطبيعة والمجتمع أي العلم والمجتمع المدني بلغة العصر، فلن يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للطبيعة والمجتمع أولاً، نكشف قوانين الطبيعة بالعلم من أجل السيطرة عليها، ونؤسس المجتمع المدني الحر عن طريق العقد الاجتماعي، الدين لله والوطن للجميع، وهو التيار العلمي العلماني الذي أسسه شبلي شميل.

ولما كانت الطبيعة في ذلك الوقت هي الطبيعة الحيوية وعلوم الحياة التي سادتها نظرية التطور، أصبحت نظرية التطور نموذج العلم، ليس فقط الطبيعي الحيوي، بل الإنساني، أيضاً. كل شيء يتطور ليس فقط الحياة العضوية بل الحياة العقلية. الدين، والعلم، والفن والقانون، والتاريخ، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق، والتربية. وترجم كتاب «أصل الأنواع» لدارون حتى يقرأ العرب والمسلمون علماً جديداً يتجاوزون به علوم القدماء.

كان المقصود إحداث «صدمة حضارية» بالوافد ليقظة الموروث، وبالعلوم الجديدة، الطبيعية والاجتماعية لتجاوز العلوم القديمة الدينية والفقهية، وتقديم علوم الكهرباء والمغناطيسية والحديث عن المخترعات الجديدة كالراديو والفوتوغراف والعربة والقطار وقوة البخار والبرق التي تسهل حياة البشر، وتم جمع ذلك في «فلسفة النشوء والارتقاء».

ومن أجل إحداث توازن بين الوافد والموروث تمت إعادة إنتاج نظرية التطور من التراث القديم في أصوله الأولى في القرآن الكريم، فتذكر آيات خلق الجنين في رحم الأم، وآيات الحث على التأمل في مظاهر الطبيعة، عالم الأفلاك أو عالم الحيوان والنبات حيث تنبثق الحياة، ثم طبق نظرية التطور في موضوعات محلية في اللغة والعادات والتقاليد والأخلاق والنظم الاجتماعية والقانونية حتى تتغير الثقافة الموروثة من الثابت إلى المتحول، ومن الوافد الجديد إلى الموروث القديم.

وقد كان من مآثر هذا التيار فتح رافد جديد في الثقافة العربية ومواجهة القديم بالحديث، والبداية بالعلوم الطبيعية، بكتاب الطبيعة المفتوح في مواجهة الكتاب القديم المغلق، والخروج من النص إلى العالم، ومن المقروء إلى المُشاهَد، ومن التأويل إلى الإدراك، ومن السمع إلى البصر.

* كاتب ومفكّر مصري

back to top