ماذا سنشتري بهذا الدم؟

نشر في 04-02-2009
آخر تحديث 04-02-2009 | 00:00
 بلال خبيز الدم. يهرق في غزة، ويغلي في رام الله وبيروت والقاهرة. كان بارداً في دمشق، حتى خالد مشعل تأثر ببرودته فلم يملك نفسه عن إظهار نواجذه تبسماً وهو يضع شروطه على إسرائيل، التي من دون تحقيقها لن يعفيها من مغبة إهراق الدم الفلسطيني في غزة. في طهران كان ثمة دم يفور في صدور الذين صدقوا الحجة الرسمية، لكن خطبة السيد خامنئي على أرض مطار طهران تكفلت بتبريد الدم في الصدور. عادت طهران كعادتها كل شتاء، باردة وثمة ثلج كثير في أنحائها.

لكنه الدم. حيث يغلي وحيث يفور وحيث يهدر، وحتى حيث يكون بارداً، هو السلاح الذي تدمن المقاومات على استخدامه. تدمن، بل تفرط في استخدامه. هذا الدم رخيص، لأنه يغلي ويهدأ من دون حجة. ولأنه يغلي في المرجل الخطأ أحياناً. ولأن كل دم الناس في كل العالم يقاس بالقطرات، إلا الدم الفلسطيني والعربي فيقاس بالشلالات. وما دمنا نملك كل هذا الفائض من الدماء، فربما يكون أمر إنفاقه فألاً حسناً.

لقد انتصرنا. أهرقنا ما يكفي من دماء لتلويث وجه العالم. انتصرنا. مات الذين ماتوا وتشرد الذين تشردوا، لكننا انتصرنا. من يجرؤ على قول رأي غير هذا الرأي؟ لم يعد ثمة حائل دون انتصار الفلسطينيين إلا النظام المصري الذي يصر ويرفض فتح معبر رفح لرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني. إذا كان فتح المعبر أرفع مرتبة من إهراق الدم، فليهرق الدم لأجل إقفاله، وليهرق لأجل فتحه. رحى تجز رؤوساً حين تنفتح وتجز رؤوساً حين تنغلق. وفي الحالين ثمة شعب يعصر تحت حجر الرحى الذي اسمه المعبر.

هذا الأمر لا يتصل بالسياسة. السياسات في بلادنا، لم تعد، منذ زمن بعيد، تتصل بمفهوم السياسات. فالسياسات في بلادنا تتبع معادلة جائرة: لن نسمح للعدو بأن يتوقف عن قتلنا إلا إذا وافق على شروطنا. اعترافاً وتتويجاً. اعتراف بحق المختبئين من القصف الإسرائيلي في أن يقاوموا، وتتويج لمن يضع شروطاً على حقن الدم. لا يكتمل المشهد دون تتويج مهيب: لأجل تتويج خالد مشعل، الذي جلس عى كرسي الدوحة من دون صفة، فقط الاسم، ينبغي أن يفور الدم ويغلي ويهرق. خالد مشعل يعفي إيران وسورية من فوران الدم، ليس لأن إيران وسورية دافعتا دفاعاً ناجعاً عن الشعب الفلسطيني، بل لأنه يريد ذلك، اعترافاً بجميل الضيافة وخضوعاً لمشيئة رب العمل. تظن قيادة «حماس» أن في وسعها أن تعفي أيا كان من الغضب أو الشعور بالعجز. فقط لأن قيادة «حماس» تريد ذلك. كون المرء سورياً أو إيرانيا في هذه اللحظة يسعد الكائن ويجعله يشعر بالامتلاء. لقد أدى واجبه كاملاً ولم يعد ثمة سبب ليفور بالغضب. قيادة «حماس» تعفيه من تبعات الغضب. ذلك أن الذي يجيز للناس أن يغضبوا أو يهدؤوا هو المعنى الذي يعطى للدم.

الدم الفلسطيني والعربي عموماً أنواع متعددة. ثمة الدم الفلسطيني في سورية وإيران ولبنان، دم فلسطين هناك هو بوابة العبور إلى السعادة الأبدية، الشهيد تلو الشهيد يزفون سعداء إلى أعراسهم. وبدمائهم تنتصر القضية. لا حاجة للسوري أو الإيراني أن يغضب، أو أن يحزن، الذين يموتون، سعداء، لهم الحياة الأبدية.

وثمة الدم الفلسطيني في القاهرة وعمان. الدم هناك مغدور ومغرر به. تمت خيانته وينبغي القصاص ممن خانوه. هو الدم نفسه، لكنه يملك وجوهاً متعددة. المصري أو الأردني لا يستطيع أن يتخفف من الغضب أو من مسؤولية الدم البريء، لأن حركة «حماس» لم تجز له أن يتخفف منه. لذلك عليه أن يغضب، وأن يثور، وأن يفتح الشعب المصري معبر رفح بصدور أبنائه.

أيضاً ثمة الدم الفلسطيني في مدن العالم. هذا الدم مبتور وناقص. لا يحسب من ضمنه دم الرجال الراشدين. قناة «الجزيرة» بدأت في «حمأة» الحرب بالإحصاءات، مئة طفل وامرأة بين القتلى، مئتان، ثلاثة، هذا فقط ما يحسب حسابه، وهذا فقط ما يفترض بنا أن نحصيه. القناة ومن تنطق بلسانهم، لا يرون في موت الرجل الراشد عيباً، لأن دم الرجل الراشد لا يزن كثيراً في الحسابات. حسابات الذين يتباكون على الشعب الفلسطيني طبعاً. هؤلاء جميعاً لا يسمعون صرخة المرأة التي فقدت زوجها وبقيت تعيل أولادها وحيدة ومن دون معين. موت الزوج لا يؤلم غير أهل بيته. شكراً لصحافتنا التي أصبحت عالمية إلى حد أنها باتت لا تأخذ حياة الرجال في حسبانها.

مع هذا كله، ليس ثمة من يريد أن يقفل صفحة هذه المقاومات. الدم مازال رخيصاً إلى الحد الذي يجدر بنا أن نعتمده «فيشاً» على الطاولات الخضراء.

*كاتب لبناني

back to top