محمد الأسمري... شاعرٌ يظمأ فترتوي قصيدة

نشر في 13-02-2009 | 00:00
آخر تحديث 13-02-2009 | 00:00
مدخل يلج لبوحٍ أكثر رحابة وفتنة:

اللي على بالي لو اقوله إرتحت

لكني القى عزني فـي عنـادي!

لو الحجر له قلب ويحس بالنحت

ما كان وجهـه لعبـةِ للأيـادي

الشاعر محمد الأسمري، شاعرٌ نحيل -حقيقة وليس للمجاز لعبة هنا- ملامحه تُشبه كثيراً ملامح الشعر الحقيقي، ثائرة بدرجة صدق، وصادقةُ حد الوجع، واحياناً مبتسمة لدرجة تجعلك تيقن ان للحزن وجهاً مقبولاً ومستساغاً، مرتحل دوماً، يحط من قمة قلق ليستوطن ريحاً ليس أقل قلقاً، لكنها أكثر ألقاً بالتأكيد، اذا لم تجده في كل المنافي فثق بأنه يستوطن منفى أكثر انسانية وشعور.

زمنه لحظة شفيفة يُصالح فيها اعادة صياغة الكلام لذمة «الورق والمحبرة»، وهذه اللحظات ايضاً حالة ارتحال سامية، هو اذكى كثيراً من صقر جارح يحسب ان القمم مصدر انفة وشموخ، وكأني به يقول هناك رحلة لا تنتهي بقمّة او دليل:

ارتحالـي لحالـي ما قـدرت انكـره

حجتي: حاجةٍ بين الرضـا والخصـام

اختصرت الطريق، وجيت من آخـره

وانت ما كنت بعيوني علـى مايـرام!

وقتها، والورق فـي ذمّـة المحبـره

نزوةٍ ليتهـا مـرّت مـرور الكـرام

ضاق صدري وضقت وضاقت الحنجره

قلت امرر سكوتي في ضجيج الزحـام

صرخةٍ في الورق تغني عن الثرثـره

لا غدى حزني اكبر من حدود الكـلام

ولخيبة أمله التي تسعدني كقارئ فإن نزواته لن تمر مرور الكرام أو الكلام ، بل ستبقى كأنشودة ظمأ تصعد لغيمةٍ حبلى، وتصعد أكثر للسماء الرحبة بالبكر من الفكر وتنهل شآبيب الدهشة، وتجهش كأنها (عيد المطر) وبإجابةٍ أكثر تسامحاً عن سؤالٍ لحال عيدٌ آت:

عيدك مطر... مثل المطر... لكن أرقى

وتهب ريـح وترسلـه بإتجاهـي

ما قلت لي (يالروح) من وين تلقـى

شعرٍ يبدد حيرتـي عـن شفاهـي

تبقى ارتباك العيد، والعيـد يبقـى

أطفال حارتنا وصـوت الملاهـي

العيد عـاد، وباقـي العيـد فرقـا

دنيـا غبيّـه، ما تشـد انتباهـي!

قراءة تفاصيل العيد بهذا الزخم يُربك ويفتح للعقل الكثير من الصور، كخيانتنا للعيد عندما نتخلي عن طفولتنا وبراءتنا ونزقنا أمامه، ثم نأتي لنسأله ببلاهة -مع الاعتذار للعم ابو الطيب- (عيدٌ بأية حال عدت ياعيد).

وهذا الأسمري النحيل يحدوه الظمأ دوماً للسمو، بنزوةٍ يخلق من الورق البور زمزماً، وكأنه يسخّر السراب ماء وان شاء عسلاً:

جف السراب! ولابقى شـيء معقـول

الا اني اجلس فـي مكانـي واتابـع!

اشرب ضمايه، من ضمايه... وانا اقول:

كذب السـراب ولا جفـاف المنابـع!

ما سبق ليس سوى حيلةٍ لاستدراج السراب قبل صعقه بحقيقة قدرته على ان يكون هو النبع والمصب والساقي، وحتى الطفلة التي تتدلى قدماها على ساحل النهر! شعرٍ يسيل وينكتب لي على طول كنّه يقطّر مـن علـوّ الاصابـع والطفلة لم ترقص بعد طيش، ربما لم تدرك بعد الفرق بين الطيش حباً، والحب طيشاً، وربما غنّت لحام ساروها بينهما:

الطيش عاشق يتبع القلب ويزول

والعشق طايش قلب ويموت تابع!

***

وجه الحياوي من حيا الوجه مغسول

والصدق طبع، وكذب الاحباب طابع

يكفيه خوف ان قال: ماني بمسؤول

ويكفيه ضعف انه يثيـر الزوابـع!

والليل دوماً يتيح لك فرصة لتمارس الصدق والحنين، فلا هو يثير زوابع، ولا حتى هو مؤهلاً لوشاية بك وانت تستعين به لتختلي بطيف أو تحس مواطن جمال قصيدة بحلم وانتظار!

حديث البارحه والليل ساهي

علي بالي قصيدٍ ما قطفتـه

عرفت انه تلعثم في شفاهي

تجاهلته وكنـي ما عرفتـه!

حضورٍ، نبرته لاهي ولاهي

يحسسني بذنبٍ ما اقترفته!

ويبقى هذا المرتحل بمنفاه الذي يضيق كزنزانةٍ تمرر وجوه الاصحاب، يتلوهم بحب وصدق، تتسع الزنزانة رباً طرباً لناي السجين، وربما لتتسع لأرواح استحضرهم صاحبها، وقرأ عليهم روحه، وبالتأكيد لم ينفث!

زنزانتي: حرية الطول والعـرض

يميل غصن وينقطف منه عنقـود!

اشوفها في عيني اوسع من الآرض

ون ميّلـت جدرانهـا تتسـع زود

احبابنا... تغريبة الجـرح والنقـض

كانوا كثير... أكثر من ايامي السود

مررتهم قدام عينـي ورا بعـض

البارحة... والليل ضيَـق ومشـدود

واحد ورا واحد...كذا كنهم نبـض

قلبٍ، لعب في حسبته ليّن العـود

أحبهم، وان ساموني على الرفض

قلت: العفو... والناس واجد وموجود!

ولنكهة الاحباب شيء يشبه معلماًً طويلاً واضحاً بارزاًً يستعصي على التعريف والتفاصيل، رغم استحالته على الإيجاز، وأقرب لتعريف للإعجاز:

احبابنـا... ون قلتهـا ينفتـح بــاب

ويشع نـور وتحتفـي بـي درايـش!

أحبابنا... واسمع صدى صوت... مرتاب:

(انت الوحيد اللي الى اليـوم عايـش!)

وحتى لو انساق خلف إغراء التفاصيل، فليس اكثر من جلسةٍ تمر سريعاً، بين وصالها وفراقها ضحكةٍ مرت ثم لاكها الغياب والصمت:

احبابنـا عنوان (ليّـن وقسـوة)

بدون مادخل في سياق التفاصيل

وصالنا: (تمر وفناجيل قْهـوه)

فراقنا: (قهوه وهيل وفناجيـل)!

حزنٍ يغني في مواويل حلـوه!

حزنٍ فراقه في وصال المواويل

وبعد:

يقول هذا الاسمري: (الخوف قبر الألسنة... والموت عذرك يا ذكي)! وبينهما أعترف ان هذا الشعر اربكني كثيراً، فهو ممتع بدرجة متعبة جداً، كشاعره المتعب في كيفية الوصول الى نصوصه، فحتى السيد قوقل لا يعرف عن ابداعه شيئاً ولا يحتفظ سوى في تاريخ تخرجه، فيما عبدالله مدعج المحتفظ دوماً بكل جمال يحفظ الأجمل، هذا الشعر المُطرب، ولا يعيبه ان لا يحفظ تاريخ تخرج محمد، والاسمري يبقى من اجمل احلام الشعر والشاعر الحلم اذ يقول:

وش قيمتك يا حلم لامـن تحققـت

واصبحت واقع ممتلئ بالسخافه؟!

back to top