عن مؤشرات القوى العظمى
تشير مختلف المؤشرات إلى أن أميركا مازالت القوة رقم واحد في العالم اقتصادياً وعسكرياً، حيث تنتشر القوات الأميركية في كل بقعة من بقاع العالم، وتمخر السفن الحربية الأميركية عباب كل المحيطات والبحار في سيطرة شبه تامة.أثارت الحرب الخاطفة التي دارت في القوقاز بين روسيا وجورجيا شجون المتابعين والمراقبين في منطقتنا العربية، إذ أدى الانتصار العسكري الروسي الخاطف والساحق على جورجيا إلى إعادة بعث مصطلحات «النظام الدولي متعدد الأقطاب»، و«روسيا القوة العظمى»، وغيرها من التوصيفات التي تستعجل التغيير في بنية النظام الدولي الراهن. ويعد الأخير التشكيلة الأعقد في السياسة الدولية، لأنه يأخذ في الحسبان توازنات القوى في المناطق الجغرافية المختلفة بعد أن يصنف أثقالها ويقايسها بغيرها في ذات الإقليم وفي خارجه، ليستنبط علاقات قوة نسبية بين البلدان والأقاليم والمناطق. ويحدد مجموع علاقات القوة المذكورة نسق النظام العالمي؛ الذي عرف في الفترة الواقعة ما بين الحرب العالمية الثانية 1945 وانتهاء الحرب الباردة 1990 قوتين عظميين هما الولايات المتحدة الأميركية وتحالفاتها في مقابل الاتحاد السوفييتي السابق وتحالفاته. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد تحالفاته الدولية عام 1990، فقد تغير النظام العالمي وأصبح نظاماً أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحدها. وشهد النظام الدولي أحادي القطبية تغيرات ملحوظة في بنيته، حيث لم يمنع استمرار ظاهرة الدولة الإقليمية في مناطق العالم المختلفة، كما شهد ولادة الدول شبه الأقطاب في النظام الدولي مثل الصين واليابان والدول الصناعية الكبرى في أوروبا الغربية. وبالرغم من كل ذلك فإن هذه التغيرات الإقليمية وشبه القطبية لم ترق إلى مستوى يسمح بالحديث الجاد والموضوعي عن عد تنازلي للنظام العالمي الراهن، أو حتى عن عودة روسيا للعب دور القوة العظمى مرة ثانية. يقود تحليل تداعيات الحرب في جورجيا إلى نتيجة فائقة الأهمية من المنظور الاستراتيجي، وهي أن فرصة القوى الإقليمية والبازغة لفرض أمر واقع جديد ضد حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في المناطق الجغرافية المختلفة قد تعززت نسبياً، ولكن من دون أن يعني ذلك أن هذه النتيجة ستمس، مباشرة أو في غضون فترة معلومة، بالتراتبية الحالية في النظام الدولي. هنا يمكن تصور أن قانون الجدلية الأساسي ومفاده «التغييرات الكمية تؤدي إلى تحولات نوعية» سيأخذ دوره في التحليل لاحقاً، ولكن دون قدرة أحد على التنبؤ بالفترة اللازمة للوصول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب. تفتقر روسيا، برغم إمكاناتها الهائلة من موارد الطاقة واتساع رقعتها الجغرافية وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن وامتلاكها القدرات النووية، إلى جاذبية النموذج السياسي الذي تقدمه، مثلما تفتقر بشدة إلى اقتصاد تكنولوجي متطور ومستوى معيشة يقارب نظيره في نصف الكرة الغربي. وبالمقابل تفتقر الصين برغم إمكاناتها التكنولوجية الكبيرة وحجم اقتصادها الهائل وامتلاكها للقدرات النووية والعضوية الدائمة في مجلس الأمن، إلى مستوى المعيشة المطلوب لمواطني الدول العظمى وجاذبية النموذج السياسي الذي تقدمه -مثلها في ذلك مثل روسيا- ولكنها تزيد عليها في نقطة ضعف مؤثرة هي اعتمادها المفرط على موارد الطاقة الأجنبية. أما اليابان وألمانيا فتفتقران إلى القوة العسكرية اللازمة لإسناد دورهما العالمي وإلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن، مثلما تعتمدان بشدة على موارد الطاقة الأجنبية، برغم القدرات التكنولوجية العالية والاقتصادية الضخمة والجاذبية النسبية للنموذج السياسي الذي تقدمانه. أما فرنسا وإنكلترا العضوتان الدائمتان في مجلس الأمن، والحائزتان على القدرات النووية والعسكرية، واللتان تقدمان نموذجاً سياسياً ناجحاً وتنشران تراثاً ثقافياً كبيراً حول العالم، فتفتقران بشدة إلى الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية مقارنة بألمانيا واليابان والصين وأميركا بالطبع. تشير مختلف المؤشرات إلى أن أميركا مازالت القوة رقم واحد في العالم اقتصادياً وعسكرياً، حيث تنتشر القوات الأميركية في كل بقعة من بقاع العالم، وتمخر السفن الحربية الأميركية عباب كل المحيطات والبحار في سيطرة شبه تامة، فضلاً عن أن واشنطن هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسعى إلى عسكرة الفضاء، وبلغت أشواطاً كبيرة في ذلك. كما أن حجم الاقتصاد الأميركي هو الأكبر بوضوح بين كل منافسيه، وعملة أميركا الوطنية (الدولار) هي -وليس غيرها من عملات الدول الأخرى- عملة التبادل الدولي، ومخزن القيمة في أربعة أنحاء الكرة الأرضية. وبالإضافة إلى ذلك تنطبق على الولايات المتحدة الأميركية باقي الشروط اللازمة للعب دور القوة العظمى من حيث جاذبية النموذج السياسي أو الانتشار الثقافي خارج الحدود الوطنية وامتلاك القدرات النووية والعضوية الدائمة في مجلس الأمن. ولذلك تفرط مقولات «النظام الدولي متعدد القطبية» في استنطاق دلالات ومعان للحرب التي دارت في جورجيا، وبما يتجاوز بكثير مضمونها القاضي بأن روسيا تعيد صياغة المعادلة الإقليمية في جوارها الجغرافي في القوقاز وشرق أوروبا لصالحها. باختصار مفيد يعكس الحديث عن «أفول الدور الأميركي» أو «صعود الدور الروسي إلى مصاف القوى العظمى» استياءً عاطفياً ومشروعاً من سياسات واشنطن في المنطقة، ولكنه استياء لا يستند –للأسف!- إلى تحليل موضوعي لموازين القوى الدولية الراهنة. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة