العميد

نشر في 24-10-2008
آخر تحديث 24-10-2008 | 00:00
 محمد سليمان في مقدمة كتابه «المعذبون في الأرض» الذي أصدرته دار المعارف عام 1952 بعد قيام الثورة رسم طه حسين صورة للمجتمع المصري الذي انقسم في العهد الملكي إلى أغلبية لا تملك شيئاً، وأقلية تملك كل شيء عندما قال «كان المصريون في تلك الأعوام القريبة البعيدة فريقين، فريق الكثرة لا يجد ما ينفق في رزق نفسه ورزق من يعول، فيشقى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشد الشقاء وأعظمه بما يجد عياله من الحرمان. كانت عينه بصيرة إلى أبعد ما يبلغ البصر وكانت يده قصيرة إلى أدنى ما يكون القصر، أما الفريق الثاني فريق القلة القليلة فقد كان يرى بؤس الفريق الأول وشقاءه وعناءه، فلا يحفل بما يرى ولا يلتفت إليه. كان مشغولا بيسره عن عسر الناس من حوله وبترفه عن شظفهم، وكان نظره قصيرا كأدنى ما يكون القصر، وكانت يده طويلة، كأبعد ما يكون الطول».

هذه الصورة الموجعة التي رسمها العميد قبل أكثر من ستة عقود هي الصورة التي مزقها عبدالناصر في الخمسينيات والستينيات بسياسات الإصلاح الزراعي والتصنيع ومجانية التعليم وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية، وهي أيضا الصورة التي أعادها خلفاء عبدالناصر بسياسات الانفتاح العشوائي والخصخصة ومساندة الرأسماليين الجدد، والإيمان بفاعلية اليد الخفية للأسواق.

كان طه حسين شابا في الثلاثين عندما عاد من فرنسا إلى بلاده رافعا راية التعليم والتنوير وسيادة العقل والعلم، ومسكونا بحلم التغيير والتحرر من أسر القهر والجهل والتخلف، وبرغبة عارمة في النهوض واللحاق بالعالم الحديث. قبل سفره كان طه حسين مجهولاً، فقد كان يكتب في صحيفة أحمد لطفي السيد «الجريدة» وفي صحف «العلم» و«السفور»، وكان أول خريج في الجامعة الحديثة يحمل درجة الدكتوراه التي نالها برسالته الشهيرة عن أبي العلاء المعري.

ومصاحبة طه حسين لهذا الشاعر المفكر زرعت على ما أظن في تلميذه بذور التمرد والتأمل والبحث والشك والرصد والتحليل، ثم رعت رحلته إلى فرنسا وفلسفة العقل الديكارتية هذه البذور، فعاد رافعا راية العقل والعلم والتحديث ليقوم بدوره المعروف في مجالات النقد والفكر والإبداع والسياسة، وليخوض معاركه العديدة مع المحافظين وحراس القديم ومروجي الجمود في كل المجالات.

فهو يفاجئ المؤرخين في كتابه «حديث الأربعاء» بقوله «كثير من العلماء المعروفين في الشرق يسبغون على التاريخ الإسلامي صفة من الجلال والتقديس الديني أو الذي يشبه الديني تحول بين العقل وبين النظر فيه نظرا يعتمد على النقد، والبحث العلمي الصحيح» ويباغت شيوخ الأدب ونقاده المشغولين بترديد القديم وتقليده عندما يقول «أستأذن أئمة الأدب وشيوخه المعاصرين في أن أكون حراً وجريئاً وأن أزعم أن الذين عاصروا أبا نواس أو جاؤوا بعده من الأدباء والشعراء لم يكن لهم في النقد مذهب معروف... وإننا نستطيع أن نقول إن أدبنا العربي يخلو أو يكاد من النقد الصحيح خلواً تاماً».

هذه الآراء وغيرها ساهمت في تأليب وتأجيج المعارك وتجميع الخصوم خصوصا بعد صدور كتابه عن الشعر الجاهلي ومصادرته وتقديمه للمحاكمة واستقالته من وظيفته وكثرة المقالات التي هاجمت كتابه وسخرت منه، وكان رد العميد ما ذكرته سوزان طه حسين في كتابها «معك» (إنني أعمل وأفضل برهان على ذلك هو أن كل الصحافة تقف ضدي وأنني أحتمل وحدي كل الصدمات).

بعد عودة طه حسين من فرنسا بفترة قصيرة اندلعت أهم وأكبر ثورة شعبية مصرية عام 1919 فوجد الرجل نفسه محاطا بمناخ سياسي ساخن، وكان عليه أن يشارك في الحوار السياسي خصوصا أن علاقته ببعض زعماء الوفد كانت قائمة ومعروفة، لكن انحيازه الأكبر كان دائما للبسطاء والقرويين والمهمّشين، والجدير بالذكر أن كتابه «المعذبون في الأرض» قد نشر في مصر كمقالات، أما نشر الكتاب فقد مُنع وتم نشره في لبنان عام 1949.

وانحياز طه حسين للبسطاء وسعيه إلى النهوض بهم دفعه وهو وزير للمعارف إلى اقتراح طريف وهو قيام الوزارة بتزويد كل قرية بجهاز راديو ليستخدمه كل الناس، والأطرف من الاقتراح كان رد القرويين الذين لا يثقون بالحكومة ولا يريدون إحياء علاقتهم بها، فقد رفضوا قائلين «لا حاجة بنا إلى هذا فعندما نعود من عملنا نريد أن نأكل فقط، وننام» وقد كان هذا الرفض نعمة كبيرة وسببا لبروز الكتاب وهيمنته على الريفيين، وتعميق وتأصيل ثقافة أبنائهم ومد البلاد في النهاية بمعظم الشعراء والمبدعين في كل المجالات.

رحل طه حسين في أواخر أكتوبر 1973 كانت الحرب مشتعلة والناس مبهورين بعبور قواتنا إلى سيناء، وخائفين من تقلبات الحرب والهجوم الإسرائيلي المضاد، فانشغلوا عن رحيل العميد الذي عبر بهدوء إلى الحياة الأخرى، فمازالت كتبه تؤكد ثوريته وآراؤه تثبت أنه كان رائياً كبيراً يستحق أبيات نزار قباني التي كتبها في رثائه:

«ضوء عينيك أم هما نجمتان؟

كلهم لا يرى وأنت تراني»

«ضوء عينيك أم حوار المرايا

أم هما طائران يحترقان

ارم نظارتيك ما أنت أعمى

إنما نحن جوقة العميانِ».

* كاتب وشاعر مصري

back to top